الحلقة الثالثة اطلالة موجزة على التقمص عند اليونان

معين العماطوري
معين العماطوري

الدكتور زهير الحلح

كاتب وباحث سوري

من أهم القضايا التي عالجتها الفلسفة اليونانية هي مسألة خلود النفس ومصيرها بعد فناء الجسد وتحلله فلهذا تناولت موضوع النفس الإنسانية و درستها بطريقة مفصلة و واضحة و عرفتها بتعريفات عده فأخذت فكرة التناسخ أهمية كبيرة في الفلسفة اليونانية و دورا رئيسيا في معالجة قضية جزاء الأنفس وعقابها فسيدنا فيثاغورس (العقل) و مدرسته تؤمن بخلود النفس و تواتر الأرواح أن تقول ان الانسان عندما يموت تنتقل روحه الى جسم اخر و ان الروح أو النفس خالدة لا تفنى بفناء الجسد و لهذا فقد قدمت بحوثا طويلة في هذا المجال و تتلخص بما يلي:

– الاعتقاد بكل أشكال التناسخ وتردد الروح في الأجسام المختلفة من بشرية وحيوانية ونباتية ولكنه لم ينقل عنهم القول بالرسخ الكامل في الحجارة والمعادن وقد امتنع فيثاغورس وأصحابه عن أكل اللحم ولبس الجلود بحجة أن تكون أرواح أقربائه ومعارفه قد حلت فيها

– الاعتقاد بالنطق فقد أجاز فيثاغورس أن تتذكر النفس ما حدث لها في الأقمصة السابقة ولكنه لم يجعل ذلك مستطاعا لكل الناس ة إنما حصره في أشخاص قلائل دون أن يبين سبب هذا النطق وغايته.

إن الغاية من التناسخ هو تطهير النفس أو معاقبتها ليتاح لها أن تدرك ذاتها وتتخلص من آثامها وترتفع للاتحاد بجوهرها وتطبيقا لهذا المبدأ عاش فيثاغورس حياة من الزهد والعفاف والتأمل وقهر البدن، ليسمو بروحه الى الملأ الأعلى ومن فلسفته الخلود وتناسخ الأرواح. ويعتقد الفيثاغوريون أن النفس عنصر خالد وهي أشرف من المادة ومرتفعة عنها ترفع العدد عن المعدود فقضى مذهبهم بالزهد في شؤون الدنيا واعتزال المجتمع لصون النفس من فساده. وحملها على التأمل بالحقائق المجردة والأخذ بالروحانيات. وكذلك كان فيثاغورس يعتقد بالنطق وكان يقص على تلاميذه انتقالاته من حياة الى حياة منذ حصار طروادة ويسأله تلاميذه لماذا يتذكر كل ذلك وهم لا يتذكرون شيئا من حياتهم الماضية، فيجيب أن ليس لدى كل شخص موهبة النطق وإن هذه الموهبة تمنح لبعض الأرواح ولأسباب لا يمكن تحديدها بالضبط (1)

وكذلك يؤكد على اعتقاد التناسخ والتذكر: بعد الموت تهبط النفس الى الجحيم تتطهر بالعذاب ثم تعود الى الأرض تتقمص جسدا بشريا أو حيوانا أو نباتا و لا تزال مترددة بين الأرض والجحيم حتى يتم تطهيرها. ويروى أن فيثاغورس كان يقول إنه متجسد للمرة الخامسة وأنه يذكر حيواته السابقة (2).

الفيثاغوريون يؤمنون بان النفس هي “علة توافق الأضداد في البدن وعلة حركته جميعا، لا أن تكون هي نفسها هذا التوافق وهذه الحركة” (3) وكذلك اعتبر الفيثاغوريون أن النفس نغم وهي تتكون من توافق الأضداد في الجسم. وارجع يوسف كرم هذا الرأي الى أطباء الفرقة. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص23)

ونجد أفلاطون في محاوراته يركز على التقمص كقانون فكما تتبع اللذة والألم واليقظة والنوم وكذلك الحياة يتبعها الموت أو الميلاد الذي هو العودة الجديدة لدورة الحياة المتجددة.

فإن التأرجح المتناغم ما بين الموت والحياة هو النغمة الكونية منذ البدا، وهذا ما علمه أفلاطون عندما قال في مثالتيه الروحية بأن التقمص ليس مسألة اختيار في الاعتقاد وليس عرضة للسفسطة والجدل انما هو حقيقة الحقائق وما على المرء الا أن يدرك هذه الضرورة الوجودية وينسجم مع تناغمها الكوني أوله الحرية في رفضها والبحث في غياهب التساؤلات والأوهام. (4)

وعندما تحدث عن النفس أكد قضيتين جوهريتين اذ أثبت للنفس وجودا مستقلا سابقا لحلولها وخلص الى نتيجة هامة وهي القول بخلودها وأورد براهين عديدة يدعم بها آراءه وتصوراته. ولكنه في بحثه حول القضية الثانية صنف النفوس البشرية الى صنفين. – نفوس الفلاسفة والحكماء الذين تخلقوا بالمثل العليا وانصرفوا بكليتهم الى تعشق الجمال الحق وقضوا جل وقتهم في التأمل والبحث عن المعرفة والسعي الى تذكر العلم المحض الذي تغدت به أرواحهم قبل أن تتخلف عن صحبة الآلهة وتنزل الى الأرض وتسجن في الأجساد، وقد جعل أفلاطون هذه النفوس مصيرا خاصا.  فقال بانتقالها بعد الموت الى حيث كانت نشأتها الأولى. أما الصنف الثاني فيتألف من نفوس بقية الخلق الذين جعلوا للجسد سيطرة على قواهم الحية و الفاعلة فانقادوا الى شهواتهم و غرائزهم و نسوا ما لقنوه في السماء ، ان نفوس هؤلاء القوم تتعرض للمحاسبة و الجزاء بعد الموت ، وتبعا لتصرفاتها السابقة وأهوائها الماضية فإنها تكون عرضة للانتقال الى المخلوقات التي تنسجم طباعها مع ميول هذه النفوس و حاجاتها و يلاحظ من محاورة أفلاطون انه قد اعتقد بالنتائج و لاسيما النسخ و الفسخ والمسخ و وضع فكرته مفصلة في كتاب الجمهورية في الفصل العاشر منها و قدم أفلاطون نظرية التقسيم الروحي حيث قسم الروح الى ثلاثة أقسام و أماكن توضعها .

1- النفس العاقلة وفضيلتها الحكمة ومركزها الرأس وهي مسؤولة عن التفكير

2- النفس الغضبية وفضيلتها الشجاعة وهي مسؤولة عن الانفعالات ومركزها الصدر

3- النفس الشهوانية ومركزها البطن وما دون وفضيلتها العفة وهي مسؤولة عن اشباع الشهوات المادية كالأكل والشرب والجنس وعلى هذا يعتقد أفلاطون بأن تحقيق التوازن والاتحاد بين هذه الأقسام الثلاثة من الروح يمكن أن يؤدي الى تحقيق العدالة والفضيلة في الفرد والمجتمع.

ويعرف أفلاطون النفس بقوله إن النفس جوهر لا يطرأ عليه استحالة ولا فساد، فهي بالضرورة لا فانية وهي من جنس الطبيعة الألهية (5) وهي عند الموت تنتقل اما الى عالم الغيب إذا كانت خيرة أو تذهب الى جسد اخر كي تتطهر.       

  قال أفلوطين: كم من نفس كانت من قبل في أناس لا تكف عن أن تضفي الخير على الناس فتنفعنا بأن تعرفنا النبوءات وتعلمنا كل الأشياء (6) فلقد سار أفلوطين على خطى أفلاطون من ناحية الاعتقاد في مبدأ العودة للتجسد فكتب كتاب عن (هبوط النفس) يقول فيه أن النفس رغم مصدرها القديس نزلت من المناطق العليا واندمجت في مقابلها الجثماني المظلم وبما أنه من قدرها أن تصبح (الها) أي روحا علوية فإنها تهبط مختارة حتى تتقوى وتتخلى عن مطالبها الدنيا.. وتهبط النفوس حاملة معها اختباراتها مما أدركته ومما تألمت منه وهكذا تتعلم كيف تكتسب القدرة التامة على إدراك كمال الحالة السامية.

ويرى أفلوطين أن الغاية من التناسخ معاقبة النفس ومحاسبتها لتتوب من أفعالها وتصرفاتها الردية فتتطهر من دنس المادة وتتخلص من الاستجابة لنزوات البدن وتنصرف الى تأمل الحقائق العلوية وتسعد بفيض المعرفة من العقل وتتهيأ لرحلة الصعود الى الجواهر النورانية.

ويظهر من خلال التساعيات أن أفلوطين قد حصر نطاق التناسخ فجعل حدوثه في معظم الأحيان يتم ضمن الدائرة البشرية وركز على جعل المحاسبة تتم بنفس الصورة التي حدثت فيها الخطيئة وتحدث عن ضرورة تبادل الأدوار بين حياة وأخرى فالغني يجب أن يتقمص مرة جديدة بجسد فقير والقاتل يجب أن يقتل ليس في الحين وإنما في دور اخر. ولكن هذا لا يمنع أفلوطين من أن يذكر أنواعا أخرى من التناسخ ويدونها في مؤلفاته وكان ظاهر تأثير أفلاطون عليه وخصوصا فيما يتعلق بالتناسخ فأورد في التساعية الثالثة مقطعا من محاورة فيدون لأفلاطون يتحدث فيها أفلاطون عن انتقال روح الإنسان التي تسيطر عليها قواها السفلية الى حيوان ونبات. وجاء فيها: النفس لا هي بالمادة ولا هي بالصورة لجسد مادي وانما هي جوهر أبدي قائمة بذاتها قبل حلولها بالبدن وستكون كذلك بعد مفارقتها للبدن ومن صفاتها من ناحية الفكر (الفعل والحياة والحركة ومن ناحية الوجود والثبات اللازمان) هذا تصور أفلوطين للنفس الجزئية أو الإنسانية التي صدرت عن النفس الكلية التي توجد خارجة عن الزمان وهي لا تقبل التغير لأنها قائمة بذاتها ولا تحتاج الى شيء خارج ذاتها، فهي لا تحتاج الى فكر وان ادراكها وجداني مطلق وهي ليست بحاجة الى التذكر والخيال. وأن كل شيء بالنسبة اليها حاضر كما هو الحال بالنسبة الى كل شيء إلهي معقول.

ولكل نفس إنسانية جانبان:

  1.  جانب باطني يمس العقل الإلهي وهي روح خالصة.

قال أفلوطين:” ليس صحيحا ان كل نفس تغوص بأكملها في المحسوس، حتى نفسنا ذاتها فيها شيء يظل في المعقول. كثيرا ما اتيقظ لذاتي تاركا جسمي جانبا وإذا أغيب كل ما عداي أرى في أ عماق ذاتي جمالا بلغ أقصى حدود البهاء. واتحد بالموجود الاهي ولكني مع مقامي هذا مع الموجود الالهي وحين أعود من معاينة العقل الى الفكر الواحد، أتسائل كيف أمكن أن ترد النفس الى الأجسام ما دامت طبيعتها كما بدت لي وان كانت في الجسم. (التاسوعية الرابعة 8:10) وقال كذلك في التاسوعية 3:17 ” ان ما يضئ النفس هو الذي تريد رؤيته النفس كما أننا نرى الشمس بضوء الشمس نفسه” فمن الذي يضئ الشمس؟ انه العقل الإلهي وقد قال وهو على فراش الموت: “أحاول العودة بالإلهي الذي في الى الألهي الذي في الكون.”

  • جانب أقرب ما يكون الى الجسد المحسوس: وهي متعددة وشهوانية من طبيعة البدن. قال أفلوطين: التاسوعية الثالثة 2:13 “ان النفس في أحط كائن بشري لا يعتروها الفناء وهي الهية تدخل الجسد دون مبرر عقلي بل هي شيء أقرب الى الشهوة، وإذا غادرت النفس الجسد كان لزاما عليها أن تدخل جسد آخر. فان كانت نفسك آثمة فمن العدالة أن تعاقب فاذا قتلت أمك في حياة الدنيا أصبحت في الحياة التالية امرأة ليقتلك ابنك.”

ان الغاية من التناسخ واضحة في الفلسفة اليونانية وتتمحور في محاسبة الأنفس وتطهيرها من الآثام ودفعها الى التوبة وطلب الغفران باعتبار أن المكافآت والآلام التي تلي الموت ليست الا نتائج منطقية للحياة السابقة وللأثر الذي تركته في النفس ذاتها.

المراجع :

  1. التقمص – أمين طليع- منشور عويدات-ط1-1980-ص35 – 36       
  2. تاريخ الفلسفة اليونانية – يوسف كرم –مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر-ط5-1966 ص24
  3. أبناء النور عبر العصور–عقيل العريفي-مجموعة مقالات مجمعة من مجلة الضحى ص28
  4. التاسوعة الرابعة أفلوطين – ص316
  5. م.س – ص322
  6. تاريخ الفلسفة اليونانية – نقله الى العربية عن الأصل اليوناني د. فريد جبر-مراجعة د. جيرار جهامي و د. سميح دغيم – مكتبة لبنان ناشرون-ط1-1997ص23
شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *