الدكتور زهير الحلح
كاتب وباحث
التقمص في شرق آسيا:
إن مفاهيم التناسخ والتقمص من بين العناصر الروحية والفلسفية التي تثير الفضول والتأمل حول عجائب الحياة والوجود تمتزج هذه المفاهيم بين الديانات والفلسفات القديمة والحوثية وتشكل جزءا من الاعتقادات والمعتقدات في ثقافات مختلفة حول العالم.
في سياق الديانات الشرقية مثل الهندوسية والبوذية تأتي مفاهيم التناسخ والتقمص كجزء لا يتجزأ من العقيدة ومن أهم الديانات الشرقية التي آمنت بالتقمص والتناسخ – الهندوسية – البوذية – السيكية – الجيتية – والسيخية.
في العقيدة الهندية يحقق التناسخ دورا بارزا فيساعد في ترسيخ العدالة وتكريس مبدأ الثواب والعقاب فمن عمل حسنا يترقى في سلم الإنسانية الى أن يتحد بالحقيقة المطلقة البراهما و من عمل سيئا فإن روحه تنتقل الى حيوان أو النبات أو الجماد والتناسخ في الهند يعرف بلفظة (بنر جنم) و يعنون به تكرار المولود أي أن الشخص إذا أخطا هدف حياته و هو عبودية الإله فإن روحه تختار 176 ألف جسم من أجسام المواشي والطيور والحشرات ثم تنتقل الى جسم الانسان (1) وسبب قولهم بالتقمص هو أن الروح اذا خرجت من جسم الانسان فأهوائها وشهواتها الدنيوية في الحياة الدنيوية أو علها يتطلب أدائها عقليا و منطقيا كما يقولون وعلى هذا الأساس فهي تتذوق في الأجسام الأخرى ثمرة أعمالها الدنيوية خيرا كانت أم شرا (2) اذا فالهندوس يقولون بتناسخ الأرواح ليتحقق الجزاء من ثواب وعقاب لتحقيق (النيرفانا) وتعني الفناء المطلق وهو عودة الروح الى منشأه لتحل في الإله براهما يقول الهندوس أن الروح بعد دورات من التناسخ و بعد استكمال ما عليها من حقوق تندمج في الإله كما تندمج القطرة في البحر (3)
وقد تميز التناسخ الهندي يتشعب فروعه فحدثنا البيروني عن المسخ والنسخ و الفسخ والرسخ فقال: “اما من مستحق الاعتلاء و الثواب فإن يصير كأحد الملائكة مخالطا للمجامع الروحانية غير محجوب عن التصرف في السموات والكون مع أهلها أو كأحد أجناس الروحانيين الثمانية و أما من استحق السفول بالأوزار والآثام فإن يصير حيوانا أو نباتا ويتردد الى أن يستحق ثوابا فينجو من الشدة أو يعقل ذاته فيخلي مركبه و يتخلص وقال بعض من مال الى التناسخ من المتكلمين: أنه على أربع مراتب هي النسخ وهو التوالد بين الناس لأنه ينسخ من شخص الى اخر وضده المسخ ويخص الناس بأن يمسخوا قردة و خنازير وفيلة و الرسخ كالنبات و هو أشد من المسخ لأنه يرسخ ويبقى على الأيام و يدوم كالجبال وضده الفسخ وهو للنبات المقطوف و المذبوحات لأنها تتلاشى و لا تعقب” (4)
وجاء في كتاب (شرائع النفس والعقل والروح) لمحمد عرب ص193 << يقولون إن الانسان تمر به ألف مرة من التجسدات حتى يصل الى درجة عليا أو درجة دنيا والدرجة العليا أن تكون كوكبا في السماء والدرجة الدنيا أن تكون قطعة حديد موجودة ومن هنا جاءت هذه الأفكار عند بعض الفرق الإسلامية>>
ان كل تناسخ جديد للكائن يدفعه بالأخلاق وعمل الصالحات والواجبات خطوة للأمام. وهكذا يترقى عبر كل تناسخ. وهو يفعل الفضائل طبعا الى أن يبلغ الاتحاد بالنفس الكونية.
وبقي الايمان بالتناسخ متسلط على الهندي وكأنه ينغص عليه حياته، والخوف من العودة للحياة أشبه ما يكون خوفا مرضيا متمكنا في النفوس.
لقد شددت تلك العقيدة على دور الأخلاق التي تحدد للشخص وجوده اللاحق. المثابرة على الفضائل تخلق المرتبة الأعلى في حيوات مستقبلية الا أن هذه العقيدة ما لبثت أن صارت غير ما كانت عليه تحت تأثير البراهماتية. فبعد أن كانت تقول بالأخلاق تؤدي إذا نقصت الى تكرار التناسخ في حيوات متعددة والى السعادة إذا وجدت في حد معقول، صارت تقلل من دور الأخلاق وتقول بأن هذه لا تؤدي وحدها وبمرة واحدة نهائية الى السعادة الأبدية. وأنها تؤدي فقط الى حيوات جديدة في أجساد بشرية تتصاعد من أرفع الى أرفع.” نجد أ، هناك ثلاثة أفكار تؤثر على العقيدة الهندية.” أولها: فكرة التناسخ أو تجوال الروح، فهم يعتقدون أن الأرواح جائلة متنقلة في أطوار شتى من الوجود. وتنتقل من جسد الى آخر سواء كان في انسان أو حيوان في طريقها الى هدفها الأخير. أما الفكرة الثانية فهي الأعمال(كارما) وهي متممة لفكرة تجوال الروح وهي لا تعلل فقط حقيقة أدوار الميلاد المتكررة بل تبين أيضا شروط هذا الميلاد وما سيتبعها من عدم المساواة الصارخة في المصير البشري. وتقوم النظرية على أن كل عمل يقوم به الانسان له ثمرته حتما وأن كل شيء يختبره الانسان في كل طور من أطوار الوجود المتكررة تقرره الأعمال التي فعلها في الوجود السابق وهي بمثابة كفارة.
أما الفكرة الثالثة: فهي فكرة الانطلاق وهي تمثل محاولة النفس الإفلات من دورات تجوالها ونتائج أعمالها. فالحياة في عرف البراهمة شر وخداع وأسر. أما الحياة الحقة فهي استجلاء طلعة براهما التي لا تكتسب الا بالاندماج فيه كما تندمج قطرة الماء في المحيط العظيم. وهدف الحياة الأسمى هو الانطلاق من دورات الوجود المتوالية، والاندماج في الكائن الأسمى. وهذا الانطلاق لن يكتسب بالأعمال، لأن الأعمال الصالحة تنتج ثمارها عن طريق الميلاد المتكرر كما تفعل الأعمال الشريرة تماما. انما يجئ الانطلاق عن طريق الاستنارة الإلهية.”5″
ويمكن تلخيص ما سبق بمفهوم الكارما
الكارما:
تفسير الروح في العقيدة الهندوسية والبوذية يتمثل في مفهوم الكارما. وفقا لهذه العقائد يعتقد أن الأفعال والتصرفات التي يقوم بها الفرد خلال حياته تؤثر على تجسده المستقبلي وحالته الروحية. وتقوم فكرة الكارما على مبدأ العمل والنتيجة حيث يعتقد الهندوس والبوذيين أن الأفعال الصالحة تؤدي الى تجسيد أفضل في المستقبل. في حين أن الأفعال السيئة تؤدي الى تجسد أقل جودة. وبالتالي يعتبر التقسيم الروحي في الكارما يعتمد على حالة الكارما الروحية للفرد حيث يؤثر الكارما على قرار تجسده المستقبلي ومدى تطور روحه. ومن خلال التوازن والنقاء في الكارما يمكن للفرد تحقيق تطهير روحي وتحقيق التحرر الروحي والوصول الى حالة النيرفانا في البوذية أو التحقيق بالموكشا في الهندوسية للكائنات الحية.
ويمكن اعتبار (الجيفا) في الهندوسية مرادفا لمفهوم الروح وهي حسب المعتقد الهندوسي الكينونة الخالدة وهناك مصطلح هندوسي اخر يدعى (مايا)و يمكن تعريفها كقيمة جسدية و معنوية مؤقتة و ليست خالدة و لها ارتباط وثيق بالحياة اليومية و يبدو أن المايا شبيه بمفهوم النفس في بعض الديانات الأخرى و استنادا على هذا فإن الجيفا ليست مرتبطة بالجسد أو أي قيمة أرضية لكنها في نفس الوقت أساس الكينونة ينشأ الجيفا من عدة تناسخات من المعادن الى مملكة الحيوانات و يكون الكارما (الأفعال التي يقوم بها الكائن الحي و العواقب الأخلاقية الناتجة عنها) عاملا رئيسيا في تحديد الكائن اللاحق الذي تنتقل اليه الجيفا بعد فناء الكائن السابق و تكمن الطريقة الوحيدة للتخلص من دورة التناسخات هذه بالوصول لمرحلة موشكا والتي هي شبيهة نوعا ما بمرحلة النيرفانا (الانبعاث و حالة التيقظ التي تخمد معها نيران العوامل التي تسبب الآلام مثل الشهوة ، الحقد ، الجهل ، الخ….) في البوذية هناك مصطلح اخر في الهندوسية قريب من مفهوم الروح وهي اتمان ويمكن تعريفه بالجانب الخفي أو الميتافيزيقي في الانسان. وتعتبره بعض المدارس الفكرية الهندوسية أساس الكينونة ويمكن اعتبار أتمان كجزء من البراهما (الخالق الأعظم) داخل كل انسان. استنادا الى البوذية مفهوم الروح يتكون من خمسة مفاهيم: الهيئة (الجسمانية) – الحواس – الإدراك – الأفعال – الضمير وهذه الأجزاء الخمسة يمكن اعتبارها مرادفة لمفهوم الروح وعليه فإن الانسان هو مجرد اتحاد زمني طارئ لهذه المفاهيم و هو معرض بالتالي للاستمرارية و عدم تواصل يبقى الانسان يتحول مع كل لحظة جديدة رغم اعتقاده أنه لا يزال كما هو و أنه من الخطأ التصور بوجود (أنا ذاتية) و جعلها أساس جميع الموجودات التي تؤلف الكون فالهدف الأسمى حسب البوذية هو التحرر التام عبر كسر دورة الحياة و الانبعاث و التخلص من الآلام و المعاناة التي تحملها و بما أن الكارما هي عواقب الأفعال التي يقوم بها الأشخاص فلا خلاص للكائن ما دامت الكارما ، موجودة عند وفاة الانسان فإن الجسد ينفصل عن الحواس – الإدراك – الأفعال – و الضمير و اذا كانت هناك بقايا من عواقب أو صفات سيئة في هذه الأجزاء المنفصلة عن الجسد فإنها تبدأ في رحلة للبحث عن جسد لتتمكن من الوصول الى التحرر التام عبر كسر دورة الحياة و الانبعاث و حالة التيقظ التي تخمد معها نيران العوامل التي تسبب الآلام ( الشهوة و الحقد والجهل…) ويسمي البوذيون هذا الهدف (النيرفانا).
يقول ( كريشنا) كما يتخلص المرء من ملابسه و يلبس ملابس جديدة كذلك الروح المتجسدة تتخلص من الأجساد و تدخل أجسادا جديدة حيث أن الموت مؤكد لمن يولد ، فإن الولادة مؤكدة لمن يموت (1) ، يقول بوذا بخلود النفس و بعقيدة التناسخ أو العودة للحياة انطلاقا من إيمانه بالسببية أو عقيدة (الكارما) التي تؤكد أن لكل شيء علة و لكل علة نتيجة فهي تتعدي الخير والعدالة ، أنها تجعل الفرد وحده متحملا نتيجة عمله فالمرء اذا مقيد في سلسلة حلقات من التوالد و التكرار يولد هنا و بعد أن يموت يولد هناك كالثمرة التي تؤكل وتزرع بذرتها لتثمر من جديد .و قال (سامسار) أو التقمص هو عملة سير أبدي لدولاب الموجودات للشخص الواحد و لما كان عمر الانسان قصيرا كان لا بد أن تنتقل النفس من بدن الى اخر و في كل بدن تكتسب معلومات جديدة. (2)
لقد أكد كثير من الباحثين في أصول الفرق الدينية وعقائدها أن التناسخ قد بلغ بلاد فارس عن طريق الهند نظرا لوجود جاليات هندية في المدن الرئيسية منها هذا بالإضافة الى أن دعاة الدين كانوا في معظم الأحيان يفدون الى الهند طلبا للاستزادة من الثقافة والتعمق في الدراسة والاطلاع على أفكار جديدة (كما فعل كمال جنبلاط) فكتب يقول: ان الدروز يشبهون الهنود من أصحاب كتاب الفيدا.. والحق أني فهمت هذا المذهب على هدى و تعاليم الفيدانتا أدفثيا الهندوكية و الفلسفة اليونانية اللتين اتاحتا لي اكتشاف مفاتيح الأسرار الدرزية ولقد كنت أول من ارتحل الى بلاد الهند – ذهبت إليها لاستكمال معارفي ومنذ ذلك الحين ذهب إليها فصيل من المريدين من جبل الدروز (3) وهذا ما فعله ( ماني) مؤسس الديانة المانوية فيقال أنه قد اجتاز تخوم بلاد فارس و عبر الى الهند حيث عاد منها بمبادئ التناسخ و كيفيته فالقول: كان ماني من أصحاب التناسخ فهو القائل في بعض كتبه أن الأرواح الأخيار و الصديقين اذا فارقت أجسادها مضت في عمود الصبح الى النور الذي فوق الفلك و بقيت على سرور دائم في ذلك العالم أما أرواح الأشرار وأهل الضلالة فإنها ترد منعكسة الى أسفل و اذا شاءت أن تلحق بالنور الأعلى و هي تتناسخ في أجسام الحيوانات الى أن تصفو مما علق بها من آثار الظلمة ، ثم تمضي لتتصل بالنور الأعلى. (4)
-مراجع فقرة الهند:
1 أسوامي نيخيلا نداء. الهندوسية – هيثم طلعت-مكتبة الأنجلو المصرية-القاهرة- 2023 – ص 35
2 برهمنا يوجا نندا، فلسفة الهند في سيرة يوجي، ترجمة أ- زكي عوض المحامي. مكتبة الأنجلو المصرية شارع محمد فريد القاهرة- 1955- ص165
3 أديان الهند الكبرى-د. أحمد شلبي- مكتبة النهضة المصرية-القاهرة-1984. ص63
4 تحقيق ما للهند البيروني-مطبوعات دائرة المعارف العثمانية- 1958- ص 48-49
5 الملل والنحل جزءان- الشهرستاني- تحقيق محمد سيد كيلاني- دار المعرفة-بيروت- 1982. ص 11-12
-مراجع فقرة الكارما:
1- ألبير شوبتيز – فكر الهند– ترجمة يوسف غلب الشام – دار طلاس دمشق – 1994- ص 32
2- أبناء الانور – ص45 مقتبسات من خلود النفس وحقيقة التقمص – مجلة الضحى العدد81– تشرين الثاني
– 1998
3- هذه وصيتي – كمال جنبلاط – مؤسسة الوطن العربي-ط1- 1987.ص 50 – 51
4- سلمان الفارسي عند العرب والترك- د. حسين نجيب المصري-مكتبة الأنجلو المصرية-1973 ص35