الحلقة الثانية من موضوع: نحن والأخر… والحق في الاختلاف

معين العماطوري
معين العماطوري

الأستاذ الدكتور عطا الله الرمحين

أستاذ جامعة دمشق- كلية الإعلام

أولا”: عوامل التنميط في تصنيف المغايرة ومعرفة الآخر

تترد معرفة الأنا للآخر بين النسبية والإطلاق، فقد تدعوني معرفتي لذاتٍ مغايرة واكتشافي لما تتصف به من صفات حميدة وأخرى ذميمة إلى التواضع في تقديري لذاتي، وإلى التبصر بما كان كامنا من خصائصها. فأعلم أن إدراكي لذاتي من خلال معرفتي الآخر المختلف موصوم بالنسبية، قابل لزيادة التمحيص أو للمراجعة والتعديل، وأعلم أن صورة الآخر ليست الآخر كما يقول الطاهر لبيب، وأن التنميط الذي قادني إلى المعرفة قد حاد بي عن الصواب. وإني سعيت إلى هذه المعرفة للآخر متزوداً برواسب سابقة من التصور الشائع وبنموذج موصوف لنمط من أنماط الذات المغايرة. وقد يقودني هذا التمحيص إلى الارتياب في حصيلة المعرفة وإلى الشك في سلامتها من اللبس، فأسعى إلى التصحيح والتثبت مثلما يحصل عندنا اليوم في حق نماذج التنمية الاقتصادية.

وعلى العكس من هذا السعي التعديلي قد يقترن إدراكي الآخر المغاير بالثقة في سلامة هذا الإدراك من دواعي اللبس ومن الارتياب في دلالة النمط. ولا أشك في مطابقة الصورة للواقع. فلا أتردد في اعتماد هذه الصورة المنمطة في أوجه التعامل بيني وبين الآخر، المغاير وترتفع معرفتي من أحادية الإدراك لذات مخصوصة إلى إطلاق الإحاطة بسائر الذوات الأخرى المتشاركة في الخصائص والسمات. ويتغذى هذا الإدراك الإطلاقي بمشاعر الكراهية والعداوة هذه والاستنقاص تجاه هذه الذات الصورة. أو يحمل على الإعجاب والتقدير والغبطة. وتصبح المعرفة الإطلاقية المحرّفة بمرايا التنميط حاملة لشحنة أيديولوجية تسيطر على السلوك الفردي والمواقف الجماعية، وتعتمد في المذاهب الفكرية وفي المناهج السياسية. والشواهد متعددة على هذا الصنف من معرفة الآخر، معرفة تنميط وتحريف واختزال، وعلى ما تفرخ عنها من أيديولوجية عنصرية ومن نظرة تحقير واستنقاص، أصبحت ذريعةً مبررة لسياسات الإقصاء والتهجير والابتزاز، ومبعثاً شرعياً لشن الحروب وغزو الأوطان وتقتيل الأبرياء وتقويض معالم العمران وهل يختلف في باب هذه المعرفة المنمطة كتاب الأمريكي صموئيل هانتنغتون عن الحضارة الإسلامية في تصادمها مع الحضارة الغربية، وكتب النازية الألمانية في أحكامها العرقية والثقافية على اليهود؟ فقد غدا الكتاب الأول إنجيل اليمين الأمريكي المتطرف في حربه على العراق واحتلاله للأوطان العربية وابتزازه لأموال العرب وآثارهم الحضارية.

وكانت أدبيات العنصرية النازية الرحم الفكرية لسياسة إبادة اليهود واجتثاث الشجرة الخبيثة من أرض الطهر «الآري» وشن حرب إبادة على البلشفية الروسية.

النزعتان الأيديولوجيتان الأمريكية اليمينية والنازية الاشتراكية تكرعان من منهل واحد منهل الأصولية العرقية التي لا تقبل التشارك بين الأنا والآخر في الخصائص الفكرية والثقافية، ولا في المراتب الاجتماعية والمنافع المادية. ولا تقول بالمساواة بينهما في حقوق الإنسان وواجباته كذات بشرية وكمواطن صاحب هوية ثقافية ومكان في الأرض ولا يبصر أصحاب النزعتين أوجه المشاركة بين الأنا والآخر. بل يرفضون اعتمادها كمرجع للنظر وكطريق للمعرفة، ولا ترتكز هذه المعرفة إلا على سلبيات المغايرة ونقائص الآخر وعلى المركزية القطبية للأنا الغربي الآري و(اليانكي) ولا تقوم إلا على جدلية استبداليه: فإما أنا وإما أنت أما نحن فلا وجود له. ويؤدي ذلك إلى السياسات التطهيرية التي دعت الإسبان إلى إبادة المسلمين وتهجيرهم في خاتمة القرن الخامس عشر، وإلى إبادة الهنود الحمر بالقطر الأمريكي في الوقت نفسه. وسلك المهاجرون الأوروبيون إلى الشمال الأمريكي سبيل أجدادهم الإسبان في إتمام عملية التطهير العرقي. وسار على نهجهم نظام النازية الهتلرية في إبادة الآخر اليهودي وحرق الآلاف من ذواتهم «الشريرة» في أفران أوشفيتز (Oshvitz وداشاو (Dachau) وتبعهم العنصر الأبيض بالقرن الأفريقي الجنوبي في إبادة مواطنيهم السود، وساروا في ذلك على طريق أسلافهم الأوروبيين الذين أنشأوا تجارة الرقيق وأبادوا بسببها ملايين الأفارقة من شباب الزنج وبناتهم. وسار على نهجهم الألمان في مستعمرة ناميبيا والفرنسيون في جبال الأوراس الجزائرية والإسبان بمنطقة الريف الغربي والإيطاليون بالصحراء الليبية وبأرض الحبشة. ويعيد الأمريكيون سلوك هذا المنهج الظلامي بأوطان العرب في الخليج وسيناء وأرض العراق، بعد أن خاضوا حروباً مدمرة في فييتنام وكوريا وأفغانستان وهم الذين مكَّنوا فلول اليهودية الموزعة في أقطار العالم من تكوين دولة إسرائيل وأمدوهم بالعتاد الحربي المتطور وبالتمويل السخي وبالتأييد السياسي المستمر في المحافل الدولية لمواصلة تجارب الإبادة الجماعية للعرب المسلمين والنصارى في أرض فلسطين والمصريين في سيناء.

وإنها لمن آيات الخلف المنطقي ومن مظاهر الانحراف الفكري، أن ترتد إلى مجاهل القرون الوسطى معرفة الإنسان أخاه الإنسان في زمن بلغت فيه الفتوحات الفكرية من العمق والشمول ما لم تبلغ مثله في سالف العصور، وتيسر فيه للبحث العلمي والتمحيص الواقع وتصويب الخطأ ما لم يتيسر مثله أو بعضه في رحلة المعرفة البشرية الطويلة. وإنه لمن دواعي المقت والارتداد الحضاري أن يشهد الجنس البشري في قرن واحد من الزمن القرن العشرين المنصرم، عدداً عدداً من الحروب والفتن لم يحصل مثلها على امتداد قرون طويلة، وأن تضحـ البشرية في هذه الحروب القريبة بمئتي مليون من أبنائها، وأن تهدر في الإنفاق عليها من الأموال والأجهزة والمرافق المدنية ومن الأرض الزراعية ومن شواهد العمران ما بذلت في جمعه وتنظيمه وتمدينه أجيالاً متراكمة من الجهد ومن الإنشاء والابتكار وأن يضيع على الأجيال القادمة هذا الرصيد الموروث وذاك الزاد المشترك من وسائل التمكين ومن أسباب التصدي للآفات والأمراض والكبت والحرمان، ومن عدة بناء المستقبل الكريم.

إنه لمن أعجب مظاهر الخلف أن يتزامن هذا التفكير المنغلق المغشى بحجب العنصرية القاصر عن إدراك الحقيقة السليمة في ذات الإنسان مع تطور وسائل المعرفة العلمية واكتسابها من أسباب الدقة الرياضية ومن آيات الضبط والاقتدار في علوم الهيأة والفيزياء والطب ما به تمكن الإنسان المخلوق، الضعيف أن ينفذ (إن أقطار السماوات والأرض). فيستمر الفضاء ويحط ساقه على سطح القمر. ومع ذلك فإن العلوم الإنسانية لم تنفك عن السعي لكسب أدوات التمحيص من الرياضيات فراراً من الحجب المضلة ومن غشاوة الأبصار طمعا” في أن تصبح معدودة في سجل ما يسمى بالعلوم الصحيحة وأنّى لها ذلك وهل من غد قريب تدرك فيه العلوم الإنسانية في معرفة الإنسان بنفسه وبأخيه الإنسان، مراتب اليقين؟ وهل يتيسر مثل هذه المعرفة اليقينية للإحاطة بواقع اجتماعي قد غدا اليوم، ولعله باق غداً، موزعاً كدمى بائع اللعب بين رفوف مختلفة منفصلة بعضها فوق بعض. وتترتب فيها الأجناس على أنماط مزركشة: نمط اليهودي في جلبابه الأسود وضفائر شعره المتدلية على الصدغين، ونمط العربي في ثوبه الخليجي الأبيض الطويل وبيمينه حزمة من دولارات ومن خلفه ثلة من زوجاته يجرون الذيول في عباءات سود، وهذا نمط المهاجر المغربي الواقف على أبواب معمل (رينو) بضواحي مارسيليا يستجدي الشغل ويتربص بالمارة وفي سراويله خنجر مسلول، وذاك نمط السينيغالي النازح من أدغال كزامانس يشد على سراويل الجوع من دون الجلباب الطويل الأزرق، ويقدم بين يدي سعيه للشغل بضحكة من أسنانه البيض. ذلك متحف من أنماط بشرية هي صورة مبتدعة، وعناصر الوهم وألوان التشكيل والصنعة أبرز ما فيها من سمات الواقع، وفي كل صورةٍ بتر لجانب من هذا الواقع ونَسْخُ وتسطيح.

وقد يترتب على جهل الآخر البعيد هذا الاختصار الاضطراري لصورته. ولم يبق اليوم بعد الديار ذريعة لمثل ذلك الجهل ولا لهذا الاختصار، مع ما يتوافر في أنحاء العالم المختلفة من وسائل الاتصال والتواصل. وكيف يبرر الجهل غشاوة الإبصار عند الفرنسيين من اليمين المتطرف وتنميطهم صورة المغربي المعايش لهم بمدن الجنوب الشرقي من بلادهم المختلط بهم في المقاهي والمتاجر وفي ورشات العمل ودور اللهو وملاعب الرياضة؟

 فهل يعزى تنميط صورة الآخر والاكتفاء بها إلى أعراض الخمول الفكري الباعث على الاقتصاد في تحصيل المعرفة، وعلى الاكتفاء بما تغدقه وسائل الإعلام كل حين من دفق الأنباء والمعلومات والصور فيمل الإنسان السعي إلى المعرفة والواقع بين ناظريه رواق للعرض والفرجة، ويعمل على الانتقاء بين مضامينها الزاخرة ويقصر جهده على هضم ما يتلقى وعلى استساغة ما ينتقي ويحصد؟

أعتقد أن العلوم الإنسانية بحاجة اليوم إلى تعميق النظر وتطوير الأبحاث الميدانية لإعانة علم الاجتماع على تمحيص الواقع المستجد كل يوم في أبواب عديدة، مثل اجتماعية الهجرة وما يترتب عليها من علاقة معرفية بين الأنا والآخر.

وإن للباحثين في هذا الميدان مخابر عديدة مبثوثة في أوروبا وفي بلاد الشرق وعلى التخوم الجنوبية للولايات المتحدة في حدودها مع المكسيك. وهي مخابر حيّة يتيسّر بفضلها رصد جنبات مختلفة من الواقع، منها جموع المواطنين الجزائريين المعروفين في فرنسا باسم «الحركي» وقد فروا إليها بعد الاستقلال خوفاً من انتقام حزب الجبهة الوطنية، وهم لا يزالون في منزلة قلقة وسط الشعب الفرنسي، فلا ضمهم هذا الشعب إلى جموعه وأدمجهم في جنسيته ولا أبقاهم على جنسيتهم وأعادهم إلى أهلهم وديارهم. ولا يزالون يمثلون في المجتمع الفرنسي جماعة من المهمّشين لا ذاتية ولا صفات، منظوراً إليهم كالأشباح الغائبين عن الوجود تارة وتارة أخرى كالدخلاء المشاغبين وجودهم زائد ووزر ثقيل ومشاكلهم عَصِيَّةٌ على الحل.

لعل أوضح شاهد على التراكب بين طبقات الانتماء الاجتماعي، ومراتب التصنيف بين الأنا والآخر يظهر للباحث في وضع الفلسطينيين العرب الداخلين في المواطنة الإسرائيلية بسبب ظروف تاريخية قاهرة. فقد وقع الحاقهم بالمجتمع الإسرائيلي الحاق معايشة لا إلحاق إدماج، وتعلم السلط المدنية في إسرائيل أن هذا الإلحاق الإداري لم يتولد منه ذوبان الذاتية الفلسطينية بمقوماتها العربية الإسلامية أو النصرانية

معرفة الآخر معرفة تنميط وتغيبها في دفات الهوية الإدارية الإسرائيلية وإن وتحريف واختزال – على ما – هذا الآخر الفلسطيني لم يبرح تسكنه حمية تفرّخ عنها من أيديولوجية المغامرة وحوافز التمسك بمقومات الهوية عنصرية ومن نظرة تحقير الأصيلة، وأن هذا التمسك يتغذى كل يوم بما واستنقاص – أصبحت ذريعةً يجده الفلسطيني من صورة لذاته في نظرة مبررة لسياسات الإقصاء الإسرائيلي إليه وما يلقاه في المجتمع اليهودي من والتهجير، ومبعثاً شرعياً آيات الريبة والإقصاء. لشن الحروب وغزو الأوطان مثل هذا الانفصام الباطن وذلك الفشل وتقتيل الأبرياء. الاندماجي يحيق اليوم بفلول اليهود السود المعروفين باسم الفلاشا، المجلوبين من الحبشة

وكينيا وغيرهما من بلاد أفريقيا الشرقية. وقد باتوا غرضاً لصنوف من المعاملات العنصرية ومن مظاهر الإقصاء والاستنقاص العرقي من جانب الطبقة الغربية من اليهود البيض. وأدركوا أن ذواتهم الزنجية لا شأن لها في المجتمع الإسرائيلي إلا شأناً إحصائياً، وأن المبرّر الأول لإلحاقهم وتهجيرهم إلى إسرائيل إنما هو تكثيف الإحصاءات السكانية لفائدة الجنس اليهودي في مقابل الكثافة السكانية للعرب.

بل نعلم من الدراسات الاجتماعية للمجتمع الإسرائيلي، أن الاندماج الاجتماعي والثقافي بين اليهود النازحين من البلاد الشرقية ومن شمال أفريقيا وبين القادمين من البلاد الغربية لا يزال مستعصيا إلى اليوم بعد نصف قرن من قيام الدولة الصهيونية. وأن عوامل الاختلاف بين المواطنين من كلا الطائفتين لا تزال طاغية على عوامل الائتلاف ونعلم أن هذه المغايرة المتأصلة مع ما لا يزال منعدماً من دواعي الأمن والاطمئنان أصبحت مدعاة إلى هجرة معاكسة يفر بموجبها إلى الأوطان الغربية أعداد غفيرة من المستوطنين اليهود، يئسوا من قدرة المجتمع الإسرائيلي على تأليفهم ويئسوا من الأنظمة الحاكمة اليسارية واليمينية على حدّ سواء أن توفّر لهم بيئة الأمن والاطمئنان التي جاؤوا ينشدونها.

نستخلص من هذه الأمثلة القليلة أن جدلية العلاقة بين الأنا والآخر حتى لو تحولت من الانفصام إلى التقارب الذي لا يمحو الخصوصيات، وتهذبت بقيم التسامح والمعاشرة وعدلت عن التصامم والجهالة، تبقى فاعليتها متوقفةً على بناء الانفتاح بين الأفراد بعضها بالقياس على بعض، وبين الجماعات إحداها تلقاء الأخرى. ويعلمنا التاريخ أن هذا الترشيد الحضاري للعلاقات البشرية بين الأفراد والأقليات داخل المجتمع الواحد وخارجه بين هذا الجنس وذاك، وبين أنصار هذا المذهب وأتباع المذهب المختلف، ليس حصيلة طيعة لنوازع الفطرة. ويستوجب تحقيقه بذل جهد ثقافي وأخلاقي يعتمد مفاهيم التقارب والتأليف وينقي البيئة الفكرية والسلوك السياسي من عناصر الافتراق والتصادم. ولا نرى المجتمع البشري يسلك اليوم هذه السبيل ولا ينهج هذا النهج، بجميع مكوناته الفكرية والسياسية والاقتصادية. ونفتقد هذا التوجه الحضاري بخاصة في المجتمعات الغنية التي نصَّبَت نفسها وسخرت قواها وجندت طاقاتها لقيادة العالم، وخولت حكوماتها (حق) (التدخل الشرعي في شؤون الخلق القاصي منها والداني، الغني والفقير. ونعلم من حصيلة الحروب التي سمح بها حق التدخل في شؤوننا الوطنية طوال العقود الأخيرة أن الأنظمة الغربية المنفردة اليوم بتسيير شؤون البشرية لا تسير بنا في الطريق القويمة المؤدية إلى التصالح بين بني الإنسان.

المعرفة والحجاب

يسيطر على ثقافة المعاصرة، بمختلف مكوناتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أحادية الفكر، يختزل الواقع الإنساني في عدد معدود من الأحكام المستمدة من التاريخ المفسرة الحاضر والضابطة مثالاتِ المستقبل. وتكتسي هذه الأحكام طابع المبادئ الأصولية التي لا تحتمل الغلط ولا تقبل الجدال. وقد سيطر الفكر الأحادي على نظرة الأمريكي إلى ذاته باعتباره مسؤولاً عن نشر القيم السياسية والأخلاقية في المجتمع البشري كله، ومكلفاً رسالةً سماويةً لإشاعة هذه القيم. ويتضح هذا الإيمان من تصريحات رؤساء الولايات المتحدة من بداية قيام الدولة، كما تتضح من كتابات المنظرين السياسيين من الذين اضطلعوا بمسؤوليات حكومية وثقافية.

وقد بين الطاهر لبيب في مقدمته لدراسات ندوة مركز دراسات الوحدة العربية عن صورة الآخر (٢) الترابط الجدلي بين تصور الأنا لذاته وبين تصوره للآخر المغاير، إذ قد يستعين الإنسان على إدراك ذاته بإدراكه خصائص الآخر، مثلما حاول هذا التمرين المعرفي المفكر المصري الطهطاوي من خلال اكتشافه الآخرَ المغاير في عاصمة باريس، ومثلما رام ذلك المصلح التونسي خير الدين في كتابه أقوم المسالك. ويسمي الطاهر لبيب هذه الطريقة المعرفية بـ «مطاردة الذات في فضاءات الآخرية».

وقد دلت المسيرة السياسية للولايات المتحدة على أن معرفة الإنسان الأمريكي نفسَهُ، وتعظيم دوره وتأهيل ذاته لقيادة العالم كان حاجباً له عن إدراك الآخر، بل حتى عن الإقرار بأهليته للرقي. وقد أفادت كتابات المفكرين الأمريكيين النزهاء المتبصرين من أمثال نعوم تشومسكي (Noam Chomsky وإيمانويل تود (Emmanuel Todd) وروجيه غارودي Roger) (Garaudy، واستفدنا نحن من دروس الحروب التي خاضتها حكومة واشنطن من جهتنا العربية، إن ذلك الحجاب كان انغلاقاً إرادياً، تولد عنه الغرور المفرط، وأفضى إلى هتك القيم التي يعتزم الإنسان الأمريكي إشاعتها في المجتمع الكوني، وإلى تعميق فجوة التدابر وتأجيج كراهية بين الشعوب. وأدى إلى كسب الإرهاب شرعية الدفاع عن النفس، وأفضى من جانب أساسي إلى تضييق مجالات الحرية في المجتمع المدني، وتعفين العلاقة بين الأفراد والأجناس، وإلى إشعال نيران الفتنة السلفية في مجتمعات الديانات المنزلة، كما أوضح ذلك المفكر الفرنسي روجيه غارودي في كتابه الأصوليات اليهودية والنصرانية والإسلامية

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *