الحلقة الخامسة من إطالة على التقمص عند الصابئة

معين العماطوري
معين العماطوري

الدكتور زهير الحلح

كاتب وباحث

الصابئة:

 من هم الصابئة؟ أصل التسمية جاء من قولهم صبئت إذا خرجت من شيء الى شيء والصابئون هم الخوارج من دين الى دين. (1)

أما في اللغة الآرامية فكلمة صبأ، صبع تعني الاغتسال بالماء الجاري وكان صابئة العراق يعرفون بالمغتسلة قال ابن نديم: ” وكان بنواحي ست ميسان قوم يعرفون بالمغتسلة وبتلك النواحي والبطائح بقاياهم الى وقتنا هذا وهم يطلقون على أنفسهم اسم المندائية لأن كلمة منداي الآرامية تعني العارف المشتق من الفعل مدعى أي عرف وعلم” (2)

الصابئة هي نوعان الصابئة المندائية والصابئة الحرانية:

1- الصابئة المندائية:

هي مجتمع ديني يعتنق الديانة المندائية، وهي ديانة قديمة تقود الى العصور القديمة في بلاد بين النهرين، خاصة جنوب وشمال العراق وشمال سوريا وجنوبي وكذلك جنوب تركيا يعتنق الصابئة المندائيين معتقدات دينية وطقوسا خاصة تعتمد على كتابات ميلك حيار وكيزا ربا وهما نصان مقدسان في ديانتهم.

وهذه الديانة عبارة عن مزيج بين العناصر الديانة الزرادشتية والمسيحية والجنوية. يؤمن الصابئة المندائيون بوجود إله واحد ويعتبرون الملائكة والشياطين والأرواح النورانية جزءا من عقيدتهم كما يعتقدون بأهمية الإنسان والتطهير الروحي النوراني للعودة الى العالم الروحي بعد الموت.

فجاء في كتاب كيزا ربا ص24: كلما طالت أعماركم زادت خطاياكم ، فلا تحزنوا على نشماثا (النفس) اذا فارقت الحياة فمن الحزن تولد الأرواح الشريرة فتسبق نشمانا في عروجها و تضايقها في *دار الحساب من أحب موتا فليطلب لهم الرحمة* و أقيموا عليهم الصلاة و التسبيح* و اقرؤا الابتهالات* و أقيموا مسقثا (طقس) الرحمة من أجلها* عندئذ يسير الضياء أمامها و يأتي النور عن شمالها فتنجو من مطراثا و من راجل النار* فالصابئة المندائية يؤمنون بوحدة الإله و بأهمية التطهير الروحي و العودة الى العالم الروحي بعد الموت ص28 من كتاب كيزا ربا : * كل من يولد يموت و كل ما يصنع بالأيدي يفسد و العالم كله يفنى فأين سر الألوهية التي فيه أن كنتم تنظرون* إن عكازتكم يوم الحساب أعمالكم التي عليها تتوكأون فانظروا الى ماذا تستندون.

وقد ذكرهم القرآن الكريم في سورة البقرة آية 62 ” إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فاهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عيهم ولا هم يحزنون” وكذلك في سورة الحج الآية 17 “ان الذين آمنوا والذين هادوا الصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة وإن الله على كل شيء شهيد” وأيضا في سورة المائدة آية 69 ” ‘ن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”

2- الصابئة الحرانية:

تهدف الصابئة الحراني الى تحقيق التطهير الروحي والوصول الى إدراك الروحي العميق من خلال الممارسات الدينية والروحية. يؤمنون بأهمية التوازن بين الجوانب الروحية. تتميز تعاليم الصابئة الحرانية بالفلسفة الروحية العميقة والتركيز على الداخل والتطور الروحي الشخصي.

والصابئة الحرانية كالمندائية يعتقدون أن النجوم والكواكب تحتوي على مخلوقات حية وأرواح ثانوية لأمر ملك النور وإنها تتحكم بمصائر البشر، ويصاحب هذه الأرواح الخيرة أضدادها من الأرواح الشريرة ففي فلك الشمس ينتصب(شامش) الإله الخير النافع رمز الخصب والخضرة ومعه الروح الشرير المهلك (أودوناي) إله الظلمة مع أرواح نورانية حارسة أخرى (3)

وترتكز معتقداتهم على ثلاثة أمور جوهرية:

1- الماء الجاري(يردنه) وهو رمز الحياة العظمى.

2- الروح خالدة لها صلة بأرواح أسلافها وتعيش على صدقات الأهل أو قرابين الموتى (اللوفاتي) وهو عشاء الموتى بالآرامية.

3- الخضوع لما يقوله الكهنة الموكلون بالكتب المقدسة.

ويجيبون على سؤال كيف أبدع الباري هذا العالم؟ هل أبدعه دفعة واحدة أم أبدعه على تدرج؟

فيقولون إن الله غير عاجز عن إبداعه دفعة واحدة على ما هو عليه، ولكن الباري سبحانه أخرجه على دفعات متتالية على مر العصور والدهور والأدوار والأكوار وكان الإله يظهر بظهورات بشرية كاشفا هويته في كل دور

قال أبو بكر الرازي” أول مخلوقات الله نور روحاني خالص بسيط هو العقل. صدر عن الباري تعالى ثم الأصل الذي تتقوم منه النفوس وهي جواهر روحانية نورانية بسيطة صادرة عن العالم العلوي بالعقل والنور الفائض من الباري تعالى نشأت النفوس وتبع النور ظل، خلقت منه النفوس الحيوانية خادمت النفوس الناطقة.” (4)

فقد كان أبو بكر الرازي يقول ما تقوله الحرانية بإمامة العقل وكفايته في قيادة الناس. وكان يعتقد ان الانسان يلاقي دواءه في هذا العالم فمن يعمل الخير خيرا يراه في حياته المقبلة وكذلك من يفعل الشر شرا يراه عندما تنتقل روحه من جسد الى آخر.

والصابئة الحرانية كانت تؤمن بالتقمص والتناسخ ” على ان أجزاء النفس الكلية توجد في الأجرام السماوية وفي النفس الإنسانية التي تحرك بدن الإنسان على نحو ما يدير الملاح دفة السفينة وإذا مات الانسان انتقلت نفسه الى جسد آخر وهي جوهر وليست بجسم ولا تلحقها لواحق الجسم. وتضيف أيضا أن النفوس الإنسانية مستقرة منذ البدء في الكواكب وان هبوطها كان بتدبير الكواكب لتتحد في الأجسام عندما تكون مهيئة لذلك” وقد أورد المرزوقي الأصفهاني عبارة ثابت بن قرة الحراني القائلة: ” إن النفس تفيض منها الحياة فيض النور، مترجحة بين النور والفعل كالرجل الذي يسهو تارة ويصحو تارة وذلك أنها إذا نظرت نحو الباري الذي هو عقل محض عقلت وإذا نظرت نحو الهيولي التي هي جهل محض غفلت وسهت”(5)

أما من ناحية القيامة فالحرانية ينتظرون القيامة كشفا وبيانا لإدراكهم الأمور العقلية وحقيقة الموت إنه ترك النفس لاستعمال الجسد فالقيامة عندهم هي يقظة النفوس الجاهلة. وهم لا ينتظرون بعث الأجساد ولا يأملون نشرها (6)

 وما دعاهم الى هذا التصور هو إيمانهم بالتناسخ. يفسر الحرانية الجنة والنار تفسيرا رمزيا فالجنة هي سعادة النفوس الصالحة عندما تتخرج بالآداب والنظر في العلوم الإلهية وكتب الحكماء القدماء فتصعد نفس الرجل الصالح شيئا فشيئا الى عالم المعقولات وتتحد بالباري سبحانه عن طريق الوجود وفي هذه الحالة تضع النفس يدها على جزءها الحقيقي الذي هو الوحدة المطلقة والخير المحض وتسعد برؤية الله وأخيرا تأوي تلك النفوس الى قناديل معلقة تحت العرش.

وأما جهنم فلا وجود لها الا أن تظل النفوس الشريرة تهين تحت فلك القمر تختطفها الجن والشياطين وتمنعها من معرفة الحقيقة واستعمالها من أجل الخير لتعاد بالتناسخ الى أجساد بشرية أو حيوانية ثم لتتطهر من أوزارها ودخل ملكوت الله الثانية. (7)

كانت العقيدة الحرانية جزءا من صميم الفكر العالمي من خلال الجدل والمثاقفة والصراع الفكري بينها وبين المسيحية. واستطاعت الحرانية الصمود وحافظت على تماسكها ولم تقطع صلتها بالحياة ولكنها عادت وزالت وذابت في المجتمع الإسلامي (بحكم جغرافيتها) بعد أن دخلت في تكوين المذاهب السرية الإسلامية وبقيت آثارها ماثلة في مذهب التوحيد الدرزي حتى وقتنا الحاضر.  

مراجع الصابئة

1- تلبيس إبليس – عبد الرحمن بن الجوزي – تحقيق خير الدين علي – بيروت – 1967 – ص83  

2- تاريخ الأدب السرياني – كامل مراد – دار المقتطف -القاهرة – 1949 – ص49

3- الصابئة المندائية جزء أول – الليدي دراوور-ترجمة نعيم بدوي وغضبان رومي-المجمع العلمي العراقي مطبعة الارشاد-بغداد- 1969ص 27

4- تاريخ الفلسفة في الإسلام – دي بور – ترجمة محمد عبد الهادي أبو ربدة – القاهرة – 1957 – ص151

5- محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين –فخر الدين محمد بن عمر الرازي- المطبعة الحسينية المصرية- 1905 -النسخة الرقمية من الكتاب 2008 من جامعة هارفارد. ص134

6- رسائل أخوان الصفا ج3 – دار صادر – بيروت – 1957 – ص487

7- نفس المصدر السابق – ص487

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *