بقلم. الأستاذ الدكتور عطا الله الرمحين
أستاذ الإعلام في جامعة دمشق
رابعاً: العلاقة بين الأنا والآخر في مجتمع السوق
المجتمع المعاصر على مراتب متفاوتة في الأرزاق وأسباب العيش الكريم، تتوزع جموعه بين أوطان غنية بالموارد الطبيعية ومكامن الطاقة ووفرة الأموال، ومزودة بأجيال أهل الاقتدار والعزم عرفوا كيف يستفيدون من الإمكانات المتاحة. وتسكن في أوطان غيرها أجيال من البشر، القاعدين، أقعدهم العجز والخمول عن الاستفادة مما بأرضهم من الموارد الغنية ومن الإمكانات العديدة للحياة الكريمة. فقبعت جموعهم في الخصاصة والفقر والاستجداء، وباتوا محرومين من ضرورات العيش عالة على غيرهم في عامة حاجيات الحياة، يقاسون الجوع والفاقة، وتحت أرجلهم أديم أرض خصبة وأنهار مياه جارية، وفي بطون أرضهم مكامن غنية للنفط والغاز وخامات المعادن. وقد تكون للنفر القليل من أثريائهم أرصدة مالية ضخمة مهربة بالمصاريف الأجنبية. فضّل الله بعض عباده على بعض بالرزق، وبعض الأوطان على أخرى في الموارد الطبيعية، وبعض الأجيال على غيرها في الوفرة المادية وفي مراتب الاقتدار وذلك من سنن الكون. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة وبشراً سواسية في الرزق، ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزّل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير﴾ (١٠) ويرى الرازي في تفسير الآية إن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر». والكبر والتكبر هو «الحالة التي يتخصص بها الإنسان في إعجابه بنفسه كما فسّره الراغب الأصفهاني في المفردات وهي نظرة استعلاء للأنا على الآخر. وقد غدا الانفراد بالمال والتوسع في المكاسب من أكبر دواعي هذا العجب ومن أشد عوامل الانحراف في نظرة الإنسان لأخيه الإنسان الآخر، ومن أقوى أسباب الاختلاف والتنازع بين الأفراد وإثارة الفتن بين الأهل والأقرباء ونشوب الحرب بين الشعوب. . وما بنا من حاجة إلى أن نستشهد بحربي الخليج في عَشرتين من الزمن أواخر القرن الماضي، للسيطرة على مكامن النفط والغاز التي تحتوي على أكثر من نصف الاحتياطي المؤكد في سائر أنحاء العالم. ولا حاجة كذلك إلى أن نذكر بما نشب من حروب في أقطار أمريكا الجنوبية للفوز بمناجم النحاس ومزارع القهوة أو الموز، ولا بما قام من تنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي في العقود الأخيرة من كيانه الشرعي حول احتكار القمح واللحوم الحمر، والمساومة على حياة الأمم بالغذاء الضروري لبقائها. لا حصر للأمثلة المتوافرة في العصر الحديث الدالة على منزلة المال ودوره في بناء علاقة الدول بعضها ببعض، وفي توزيع المنازل بين الطبقات والفئات الاقتصادية داخل المجتمع الواحد، وفي تكييف نظرة الإنسان للآخر المختلف عنه في المكاسب والرزق. السنا نعيش منذ أكثر من نصف قرن وسط اقتصاد السوق الذي يميز بين الجنوب والشمال الأول موطن الفقر والتخلف، والثاني موطن الغنى والرقي الأول موطن الوفرة المادية المهملة أو المستثمرة من الغير ولفائدته، والثاني موطن ابتداع الوفرة من القلة وإنشاء الرفاه بالجهد الدائب والعمل المجدي. الأول موطن غنى الطبيعة والثاني موطن غنى الإنسان وهل من غنى غير الإنسان؟ تفيد الأدبيات المدرسية أن تطور الاقتصاد في القرنين الثامن والتاسع عشر قد قسم العالم قسمين عالم الرأسمالية الليبرالية وعالم الرأسمالية الاشتراكية، وثالثهما عالم الفقر والتخلف يترنح بين هذا الصف وذاك، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك. وقد أدت المنافسة بين الشقين المتناظرين الرأسمالية والاشتراكية إلى التنازع على زعامة العالم وإلى علاقة عدوانية بين الأنا والآخر، وإلى الاختلاف العميق في النظريات المتعلقة بالموازنة بين الإنسان والمال، بين إشاعة المنافع التوزيع على تكديس الإنتاج، وبين حصر المنافع في طبقة خاصة على الكافة وتقديم” وتسخير الإنتاج لهدف تعظيم أرباح الممولين والمحتكرين لوسائل الإنتاج، وعاش المجتمع العصري على هذا الشرخ المفرق في حرب باردة نافية للأمن والطمأنينة. وقد تأسس اقتصاد السوق في صيغته الرأسمالية الليبرالية على مركزية الأنا الفردي في انفصاله عن الجمع، وفي بناء الرشد الاقتصادي على ركن الفردانية بما يحركها من رغبات وميول طبيعية تدفع إلى طلب اللذة وإلى دفع المكروه، وتحفز على الاستزادة من المكاسب لصالح الذات الشخصية، وتؤمن معقولية السوق بأن مصالح المجتمع هي الحصيلة الحسابية لإضافة مصالح أفراد إحداها إلى الأخرى، وإن الآخر الجماعي لا وجود له في اقتصاد السوق ولا مبرر لهذا الوجود ولا حاجة لنمو الاقتصاد إلى الهيئات والسلطات المشتركة، وفي مقدمتها سلطة الدولة. بل النمو الاقتصادي وتزايد ثروة الأفراد حصيلة طبيعية للعوامل الذاتية والنوازع التلقائية، ولا حاجة لها بتدخل عامل أجنبي مختلف عن ذات الأنا الفردية. ولهذا فإن إنجيل المعقولية الليبرالية يقتضي كف الشغب المفسد للتطور التلقائي والمتأتي من تدخل الدولة ويعمل على توطيد حرية المبادرة الخاصة من جانب الأفراد الممولين، وإفساح مجالات التنافس الحرّ بين الأفراد والمؤسسات مالكي وسائل الإنتاج المتزاحمين على كسب أسواق التجارة وتعظيم الأرباح. لقد فرّخ اقتصاد السوق بجوانبه التطبيقية ومعقوليته النظرية ما أصبح يعرف بمجتمع السوق القائم على تعظيم الفردانية الذاتية المؤسس للعلاقة بين الأنا والآخر على قاعدة تبادل المنافع المقلل من قيم التضامن والإيثار، يكاد يختصر الإنسان في الوظيفية الاقتصادية لإنتاج السلع واستهلاكها. ومثلما هو الحال في اقتصاد السوق من هيمنة النموذج الواحد على مختلف مجالات الاقتصاد، ومن التسليم بأن لتحقيق التنمية سبيلاً واحدة يسميها المنظر الأمريكي رستوف سبيل الإقلاع»، فإن لمجتمع السوق نمطاً واحداً في معرفة الإنسان ذاته وفي علاقته بالآخر. بل إن مقاييس التنميط مهيمنة على مجتمع السوق في مختلف ميادين الحياة الفردية والعلاقات الاجتماعية. فلاستهلاك السلع والمنتوجات نمط سائد في الأكلات السريعة وما يرافقها من مشروبات رائجة، حتى قال بعضهم إن العطش أصبح مقروناً بمشروب الكوكاكولا.
وللملابس الرجالية والنسائية نمط واحد، باتت مختزلة في سراويل «الجينز» الزرقاء للجنسين معاً. وطال التنميط ميدان الثقافة والترفيه، فأصبحت سوقاً رابحة للموسيقى الزنجية ولأفلام العنف والجنس. وتلخص التحصيل الثقافي في كراريس «الشرائط المصورة».
ودخل الإنتاج الأدبي في سوق الكساد لشذوذه عن التنميط، واقترن التحصيل المعرفي والتكنولوجي بالأمية الثقافية، وتراجعت المدرسة عن رسالتها الحضارية لتصبح بوابة المعمل والإدارة، وتخلت الدولة عن وظائفها التربوية والصحية والثقافية، بل حتى عن وظيفة توفير الأمن والطمأنينة لعموم المتساكنين. وعهدت بجميع ذلك إلى ما يعرف بالقطاع الخاص وسمحت بقيام مدارس وثانويات وجامعات خاصة، وبإنشاء مصحات ووحدات علاج بأيدي القطاع الخاص، ورضيت بأن تصبح الثقافة قطاعاً تجارياً تحكمه مقاصد الجدوى المالية، ورضيت الدولة بأن تقوم وحدات أمن خاصة على حراسة المؤسسات والأبنية القنصلية والدبلوماسية، وأن تقوم بتوفير الأمن لبعض الأحياء الخاصة بالأغنياء وذوي الجاه. وقد “ترتب عن اضطلاع المال الخاص بالمصالح العمومية تغيير عميق في دور الدولة في المجتمع، وقد أصبحت منه بمرتبة الدرك الحارس للمصالح الخاصة. وبمنزلة «الآخر» المتفرج، الحاضر الغائب، إلى جانب نوع جديد من السلطة يحتكر مقاليدها أصحاب المال. ونتج عن هذا الانزلاق المؤسساتي تحريف عميق لضوابط المصلحة، بانتقالها من العمومية إلى الخصوصية ومن سجل القيم الأخلاقية إلى دفاتر الحسابات التجارية. وأضر التحريف بمضمون المصلحة والخدمة العامة. فقد كانت المدرسة والثانوية والجامعة مفتوحة في وجه كل مواطن يملك المؤهلات المعرفية، يرتاد أقسامها مجاناً طوال الفترة التربوية الواجبة، ويتشارك في التحصيل على أساس المساواة بين الفئات المختلفة. كانت المدرسة المجال المفضل للتواصل والتقارب بين الأنا والآخر، الآخر أياً كان مأتاه وأياً كانت طاقته المالية. فانقلبت المدرسة مجالاً خاصاً مغلقاً في وجه المغايرة المالية والاجتماعية، وأصبحت ملاذاً لطبقية التجانس والتشابه، ورباط الأنا الغني، الذي لا يرى في رفيق الصف فرداً مختلفاً يخرج عن مواصفات النمط المحدد. وفقدت المدرسة، من جراء ذلك المنهج الانتقائي، والدور الاجتماعي النفيس الذي كان لها في تمتين النسيج الاجتماعي وفي التأسيس للتربية السياسية الديمقراطية وفي ضمان التواصل بين الأجيال. وبما أن المدارس العمومية بقيت قائمة إلى جانب دور التعليم الخاص، فقد تولدت عن ذلك ثنائية تربوية تمتد آثارها خارج المدرسة وأعواماً عديدةً بعد سنّ التعليم. وبات التخرج التربوي مصنفاً على أساس التفاضل بين المدرسة الدولية، يتلقى فيها التلميذ تعليماً مختلفاً في النوعية والجودة عما يحصده تلميذ المدرسة الخاصة، وقد تصبح هذه المفاضلة عامل إقصاء لهذا الآخر المختلف. وطالت هذه المغايرة في التصنيف بين الأنا والآخر، الوحدات العلاجية وحصل انقسا طبقي بين مرضى المستشفى العمومي ومرضى المصحات الخاصة. وباتت الأولى منعوتة بالاكتظاظ والفوضى والفحوص المستعجلة ونقص الخبرة والتحصيل المعرفي لدى الممرضين والمعاونين الصحيين، في حين تمتاز المصحات الخاصة بالنظام والنظافة واستخدامها ذوي الكفاءات العالية والتجربة السريرية الطويلة والعناية المركزة أو هكذا حصل في التقييم والمفاضلة بين المؤسستين. يسود الاعتقاد، غداة سقوط جدار برلين وفشل الاقتصاد السوفياتي المسيّر بالتخطيط الإلزامي من جانب السلطة المركزية بأيدي الدولة، بأنه لم يبق من سبيل للنشاط الاقتصادي غير سبيل الليبرالية الجديدة سبيلاً مفردةً واعدةً، تحكم بترابط جميع الاقتصادات وبتنميطها في نسيج متماسك موحد، منتظم حول قطب مركزي، مهيمن على جميع القطاعات، في مجتمع معولم ينفي كل خصوصية مغايرة، ويعمل على تسطيح الفروق والاختلاف والليبرالية قد جعلت من السوق سلطة كلانيةً ومذهباً فكرياً أحادياً، وجعلت قوانينها أحكاماً إلزامية لا فكاك من تطبيقها. وأنشأت أصولية جديدة لها في الميدان الاقتصادي مثل صرامة الأصولية في مسائل الدين، وإقامة العلاقات الاجتماعية على تبادل المصالح والتنازع على تحقيقها والفوز بها لفائدة الأفراد وجنحت إلى التقليل من العامل الأخلاقي في هذه العلاقات. يقول إدوارد هيوم أحد أقطاب المدرسة الليبرالية: لا نعلم على العموم ما يثبت وجود عاطفة إنسانية اسمها حب
“الجنس البشري مستقلة عن علاقة الإنسان بذاته وعلاقته بالآخرين، العلاقة بين الموجود وبين المرغوب هي علاقة نفعية وليست علاقة أخلاقية ويرى الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز أن منطق السوق المرسلة بلا قيود القائمة على التنافس بين الأفراد والجماعات المحفوزة بالمنفعة الشخصية وحدها هو منطق حرب الجميع على الجميع». ويفضي منطق مجتمع السوق المحكوم بمثل هذه الأنانية العدوانية إلى تقزيم ذات الإنسان. وإلى طمس ما في هذه الذات من قيم أخلاقية عالية، وتعفين العلاقات الاجتماعية وتغشية نظرة الإنسان لأخيه الإنسان. تُرى ما الذي بقي في هذا الفرد المنمط المقصور على بهيمية الجهد الإنتاجي والنوازع الاستهلاكية من الإنسان الذات الكريمة المتطلعة إلى الخير والمرحمة والجمال المحفوزة بنوازع الفضيلة والبذل المسكونة بمشاعر التضامن مع الآخر المتسامية بالعبادة إلى آفاق الغيب؟ هل يتسع لمثل هذه القيم غير التجارية مجتمع السوق الذي غدا في أحكامه واللامعقوليته مطابقاً لما وصفه الأب لاكوردير Tere La Cordaire أحد قساوسة كنيسة «نوتردام» الباريسية عام ١٨٤٨ بقوله: «بين القوي والضعيف وبين الغني والفقير وبين السيد والعبد الحرية هي أداة الاستعباد والقانون هو أداة «العتق». أليس مجتمع السوق يقوم على إطلاق الحريات لفائدة الغني والقوي والسيد في مختلف مجالات المعاشرة بين الأنا والآخر: حرية التملك وحرية المنافسة وحرية التجارة وحرية الاستهلاك والتبذير وحرية الإضرار بمقومات البيئة . وانضافت إليها حرية التعسّف وحرية التدخل في شؤون الغير. وباسم حرية المبادرة والتصرف الاقتصادي فقدت القوى العاملة شطراً مهماً من الحقوق المكتسبة في استقرار العمل، وضوابط التوظيف، ومقاييس الأجر. وأصبحت المؤسسات الاقتصادية تعمل بقاعدة مرونة التشغيل، يخولها الحق حرية التعاقد الفردي مع العامل لمدة معدودة ولعمل موصوف، وبأجر محدود، ثم تصبح، عند الفراغ من هذا العمل في حل من كل التزام تجاه العامل. كان الطرد إجراء تعسفياً محكوماً بالقانون محدوداً بالضوابط، فأصبح الطرد إجراءً شرعياً محكوماً بقانون المؤسسة الرامي إلى تعظيم الربح. وقد أدى هدف تعظيم أرباح المؤسسة إلى «تسريح» عشرات الآلاف من العاملين الموسميين القادرين من أصحاب الأقدمية الطويلة في العمل، وطردهم بقصد التخفيف من كلفة الإنتاج. وبقصد الفوز في أسواق المنافسة، انقلبت المفاهيم وأصبحت البطالة إجراء اقتصادياً سليماً تقتضيه حرية المنافسة وتفرضه قوانين السوق، وقد كانت البطالة ظلماً اجتماعياً وخللاً اقتصادياً وشاهداً على عجز سياسة التنمية من دون توظيف القوى العاملة. وهي من وراء ذلك ثلمة في نسيج التضامن، وسوأة في سويداء الذات. يقول الراغب الأصفهاني: من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية بل من الحيوانية وصار من جنس الموتى (١١) . ويرى الشاذلي”
” العياري أن العمل يمثل عنصراً أساسياً لكرامة المواطن، بل لقيام المواطنة ذاتها من أجل ذلك كان فقدان العمل أي البطالة مضراً بهذه الكرامة البشرية مجحفاً بحق المواطنة ومفسداً لجودة الحياة (١٢) وتراجع حق الإنسان في العمل من مراتب الوجوبية على الدولة وعلى المجتمع، إلى مراتب السعي الفردي والتنافس بين الأفراد وقد كان التشارك في العمل داخل المؤسسة الواحدة عامل تأليف بين الأجراء المشتغلين، وميدان التضامن وتقريب المسافة بين الأنا والآخر، فأصبح عامل تفريق بين المفصولين عن العمل وبين المستمرين في المباشرة، فتغيرت النظرة بين هؤلاء وأولئك وتلونت بمشاعر الحسد والكراهية والانفصام. باتت سوق العمل محكومة بمفاهيم الجدوى المالية العاجلة، وموصومة بتراجع نصيب العمل في تحقيق الإنتاج، ويعزى هذا التراجع في أحد جوانبه وفي بعض مقاديره الكمية إلى إنابة الأجهزة الصناعية المتطورة عن جهد الإنسان، وإلى استغناء هذا الإنتاج عن نسبة متزايدة من مساهمة العمل، مع الإبقاء على مقاييس الجودة والحجم. ويعزى ذلك التراجع في نسب أخرى من مقاديره إلى حرية أصحاب المؤسسة في تقدير مقاييس الجدوى وفي اللجوء إلى التنقيص من نصيب الأجور المالية لتعظيم هذه الجدوى. وبذلك يكون مجتمع السوق قد رجع القهقرى في مفهوم الأجر الواجب للعمل، والانتكاس به من مقاييس إشباع حاجات الإنسان العامل له ولمن يعولهم إلى مقاييس السلعة التجارية الخاضعة لقانون العرض والطلب في اقتصاد السوق مثلما كان شأن مفهوم الأجر في تصنيف أباء المدرسة الليبرالية منذ قرنين من الزمان. القوى هجرة القوى العاملة، بأفواج متزايدة هي من حصاد أزمة العمل في مجتمع السوق حصلت نتيجة انكماش طاقة التشغيل في المؤسسات الاقتصادية انكماشاً لا تنفرد به سوق الشغل بالبلاد النامية، بل تتشارك فيه مع الاقتصادات الصناعية الكبرى. ولئن كان انتقال العاملة من مواطن البطالة والعوز إلى مواطن الوفرة والاستيعاب ظاهرة قديمة مألوفة تجري على مسافات قريبة وفي آفاق الجوار، فقد أصبحت اليوم ظاهرة كونية تهم أفواجاً متفاقمة وأجناساً مختلفة، وتجري في آفاق جغرافية عريضة. بل غدت مشكلة سياسية تخص علاقات الدول الغنية بجاراتها المتخلفة، وتدعو تلك الدول إلى حماية أسواق عملها وبيئتها الاجتماعية، من أفواج الهجرة المتدافعة من الجنوب إلى الشمال بمختلف القارات الجغرافية. وقد تحصنت دول أوروبا الغربية في نطاق السوق الموحدة بترسانة من القوانين الحمائية، واتخذت مجموعة من الإجراءات لصد أمواج الغزو الجنوبي من أجل أن تصبح سوقها العمالية قلعة منيعة لا مكان فيها للآخر المختلف الفقير . يهمنا في هذا الغرض مظاهر التعامل بسبب ـرة بين الأنا المواطن الأوروبي المعتد بتقدم اقتصاده والمعتز برقي مجتمعه، والأنا الإنسان في ذات هذا المواطن بسبب وجود ذلك الآخر الوافد عليه، ألا يحدث هذا الحضور المشاغب للآخر نوعاً من الانفصام الباطن بين الوجودين، وجود الذات الوطنية المنحازة لمفاهيم الحماية، والانغلاق ووجود الذات الإنسانية المتربية على مفاهيم التضامن والإخاء والمؤهلة للتسامح والانفتاح هذا”
“الانفصام هو حالة وجودية وعقدة إشكال فكري بين نوعين من المراجع المتضاربة قد تتولد منه عقدة التأثيم والجلد للذات الإنسانية، أو تتولد منه تفاقم مشاعر الكراهية والرفض لهذا الآخر المختلف الذي كان حضوره سببا في هذا الانفصام الداخلي وفي إثارة هذه المشاكل المشاغبة. نعلم من جانب آخر ما يلقاه المهاجر في بيئة الاستقبال من صنوف المعاملات المتباينة تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن وسط اجتماعي إن مركزية نظرة الإنسان إلى وسط غيره، ومن ظروف زمانية مؤاتية إلى الأمريكي إلى ذاته في رسالته ظروف عصيّة. فقد تدعو إلى قبول المهاجر حاجة الاقتصاد إلى جهده أو إلى كفاءته، وقد لا تكون من رية وفي منزلته الـ لتبشـ الكونية لا يمكن أن تجود حاجة إليه، فيقابل وجوده بأنواع من الرفض بنصيب من التقدير للإنسان رَفْضِ وظيفي مهني، بصفته عاملاً أو صاحب الآخر. إن هذه المركزية الفكرية تقوم على عقيدة إقصائية لا مكان فيها للاختلاف والتعدّد. حرفة أو من أهل الاقتدار والكفاءة المهنية، ورفض اجتماعي بما يميزه من انتساب إلى مجتمع معين بينه وبين مجتمع الاستقبال خلافات مزمنة أو عداوة قائمة ثم رفض ذاتي لما للمهاجر من صفات محسوسة ومن ملامح المغايرة والاختلاف، وما يعلم عنه من الصفات المعيارية: عربي إرهابي أو مسلم متعصب أو سياسي فار من الحكم أو طالب للجوء السياسي. وفي معظم هذه الحالات تقوم العلاقة بين الأنا، والآخر في مجتمع الهجرة على مشاعر الحذر والريبة في أول الأمر، ثم لا تلبث أن تتغلب مشاعر الرفض والإقصاء، وتهيمن على هذه المعاملة مقاييس التنميط الحاجبة عن المعرفة المباشرة المحرّفة لخصائص الذات، في شخص المهاجر في نظر الأنا الإنسان، والأنا المواطن. ولم يحدث أن تلينت هذه المشاعر، حتى بعد اندماج المهاجر في مجتمع الاستقبال. بل تبقى كامنة في خبايا اللاشعور، وتطفو على السطح وتؤثر في السلوك، عند أول حادثة تحدث في المجتمع. يشهد على دوام هذه المشاعر العدائية خامدة في اللاشعور الجماعي ما أصبح يلقاه المواطنون الأمريكيون من أصل عربي وإسلامي بعد حادثة ١١ أيلول / سبتمبر، وما تعرضوا له من آيات العداوة والانحياز، حتى من جانب ۱۱ الدوائر الرسمية، وفيهم أعداد كثيرة من المواطنين ترجع هجرتهم إلى العالم الجديد إلى أقدمية سابقة على هجرة الكثير من الطليان والإسبان والهولنديين. ذلك أن هؤلاء لا يحملون من سمات الاختلاف ما يحمله أولئك، ولم يتشبثوا بمقومات الهوية الأصلية، وحققوا درجة كبيرة من الاندماج في البيئة الجديدة. مقدمه مقدماً على نعلم من الأدبيات المنشورة ومن تجارب الزمن المعاصر، أن الاقتصاد بات السياسة، في تقاسم السلطة، وأن مجتمع السوق هضم المجتمع المدني وتغلب عليه في المفاهيم المرجعية وفي مظاهر السلوك، وأن الذات الإنسانية للأنا غدت محجوبة بخصائص الذات الاقتصادية، ومتضاربة معها في توجيه الموقف من المغايرة وفي التعامل مع الاختلاف ونعلم كذلك أن عقاقير التذويب لم تفلح في القضاء على الذات الإنسانية بما تألفه من عناصر” متراكبة، ولم تبلغ القيم النفعية التقزيمية إلى إطفاء شموع القيم المعيارية الثقافية والأخلاقية والدينية. ونعلم كذلك أن علاقة الإنسان بأخيه ورابطة الأنا بالآخر ليست في الواقع ولا يمكن أن تؤول إلى معادلة تجارية. وإن رياح التغيير التي بدأ يعم انتشارها في أرجاء العالم ويتصنف التأليف فيها بكثرة متزايدة تمثل بوادر الترشيد أو إعادة هذا الترشيد إلى العلاقات الإنسانية، وتعمل على تطهير العلاقات البشرية من الرواسب الكدرة وعلى تحريرها من الانحرافات.”