
زهير الحلح
باحث وكاتب
يظن الكثيرون – خطأ – أن السياسة هي فن المراوغة والحيلة والدهاء. أو القدرة على المناورة والتلاعب وعدم كشف الحقائق والأوراق…وغير ذلك من فنون وتكتيكات. والحقيقة أن ما ذكر هو شكل من أشكال وأساليب ليست هي السياسة بدلالتها الجوهرية، بل إنها بعض الوسائل المتبعة في الوصول إلى الأهداف، والغايات، والاستراتيجيات السياسة. ومن الأمور المؤسفة أن السياسة -كعلم إنساني شديد الأهمية والتأثير – تعرضت إلى أضخم وأخطر، وأسوأ ألوان التشويه والانحراف على مدى آلاف السنين من تاريخ الحضارة البشرية وتكوينات المجتمع المدني، إلى أن درجة العرف الشائع عن السياسة أنها فن، وليست نسقاً معرفياً وعلماً قائماً بحد ذاته له مكوناته، وبنيته، وطرائقه البحثية، ونظرياته، وتطبيقاته العملية في هذه البيئة المجتمعية أو تلك. لقد عُرِّفت السياسة المدنية بأنها “علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة سميت بها لحصول السياسة المدنية، أي مالكية الأمور المنسوبة إلى البلدة بسببها، وفي بعض الكتب يسمى: علم السياسة، والحكمة السياسية، والحكمة المدنية، وسياسة الملك، وفائدتها أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس، ليتعاونوا على مصالح الأبدان، ومصالح بقاء النوع.”
وذكر جميل صليبيا في معجمه الفلسفي “أن السياسة مصدر ساس، وهي تنظيم أمور الدولة، وتدبير شؤونها، وقد تكون شرعية، أو تكون مدنية. فإذا كانت شرعية جاءت أحكامها مستمدة من الدين، وإذا كانت مدنية كانت قسماً من الحكمة العملية، وهي الحكمة السياسية، أو علم السياسة. وأضاف موضوع علم السياسة عند قدماء الفلاسفة هو البحث في أنواع الدول والحكومات، وعلاقتها بعضها ببعض، والكلام على المراتب المدنية وأحكامها، والاجتماعات الإنسانية الفاضلة والرديئة، ووجوه استبقاء كل منها، وعلة زواله، وكيفية رعاية مصالح الخلق، وعمارة المدن وغيرها.”
أما الفرق بين السياسة النظرية والسياسة العملية، فإن الأولى تعنى بدراسة الظواهر السياسية المتعلقة بأحوال الدول والحكومات وهي مختلفة عن الظواهر الاقتصادية، والإدارية، والقضائية، والثقافية، على حين أن الثانية تعني بأساليب ممارسة الحكم في الدول لرعاية مصالح الناس اليومية، وتدبير شؤونهم وأحوالهم.
والسياسي: هو المنسوب إلى السياسة، نقول: “هذا أمر سياسي، وهو الأمر المدني المشترك بين المواطنين الخاضعين لقوانين واحدة. ومن الاقتصاد السياسي، والحقوق السياسية، والسلطات السياسية. وإذا أُطلق لفظ سياسي على من يتولى الحكم في الدولة دلَّ على نوعين من الرجال: أحدهما رجل دولة، هو الذي يقيم الحكم على سنن العدالة والاستقامة، والثاني رجل الحكم الماهر في الانتفاع بالظروف المحيطة به لتحقيق مآربه السياسية.”
وقد عرف (معجم ليزه) السياسة عام 1870 (السياسة فن حكم الدول) وعرفها (معجم روبير) عام 1962 (السياسة فن حكم المجتمعات الإنسانية).
وكلا التعريفين يجعلان الحكم موضوع السياسة. ولكن التعريف الحديث يشمل حكم الدول، وحكم المجتمعات الإنسانية، فكلمة حكم تعني عندئذ، في كل جماعة من الجماعات، السلطة المنظمة، ومؤسسات القيادة والإكراه، إن الاختصاصيين يتجادلون في هذا، فبعضهم ما يزال يرى أن السياسة هي علم الدولة من حيث إن الدولة هي السلطة المنظمة في الجماعة القومية. ولكن أكثر الباحثين يرون أن السياسة هي علم السلطة المنظمة في الجماعات الإنسانية كافة. هذا من جهة الاتفاق بين التعريفين أما من جهة الخلاف فأحدهما يعتبر السياسة علماً والآخر يعتبره فناً. وبين هذا وذاك نجد موقفين أساسين على وجه العموم. فالناس منذ أن فكروا في السياسة يترجحون بين تأويلين متعارضين تعارضاً تاماً. فبعضهم يرى أن السياسة صراع وكفاح. فالسلطة تتيح للأفراد والفئات التي تملكها أن تؤمن سيطرتها على المجتمع، وأن تستفيد من هذه السيطرة، وبعضهم يرى أن السياسة جهد يبذل في سبيل أفراد الأمن والعدالة، فالسلطة تؤمن المصلحة العامة والخير المشترك وتحميهما من ضغط المطامع الخاصة. الأولون يرون وظيفة السياسة هي الإبقاء على امتيازات تتمتع بها أقلية وتحرم منها الأكثرية. والآخرون يرون أن السياسة وسيلة لتحقيق تكامل جميع الأفراد في الجماعة وخلق (المدينة العادلة) التي سبق أن تحدث عنها فلاسفة كثيرون. أما الموسوعة الفلسفية الروسية فقد عرفت السياسة: بأنها مشاركة في شؤون الدولة وتوجيهها. حيث تتضمن السياسة مشكلات بين الدولة وإدارة البلاد والمجتمع والطبقات، ومسائل الصراع الحزبي… فالمصالح الأساسية للطبقات الاجتماعية المختلفة (والمتصارعة) والعلاقات الناشئة بين الطبقات المتناحرة تنعكس بصورة وأوضاع مواقف مباشرة وغير مباشرة في السياسة. كذلك تعبر السياسة عن العلاقات بين الأمم والدول (السياسة الخارجية) وتنشأ العلاقات بين الطبقات. وبالتالي بين سياساتها عن وضعها الاقتصادي وأفكارها السياسية.
وفي حين “أن المؤسسات القائمة على أساسها تشكل (البنية الفوقية) لكن ذلك لا يعني أن السياسة هي حاجات سلبية أو حتمية للاقتصاد. لأن السياسة كي تكون قوة تحول كبيرة ينبغي أن تعكس بطريقة صحيحة وموضوعية حاجات الحياة المادية للمجتمع. ويقوم علم السياسة الحقيقي على قوانين التطور الاجتماعي التي تتلاءم مع مصالح المجتمع.”
وبدورها ركزت الموسوعة السياسة التي أعدها مجموعة من الباحثين والمختصين العرب على حقيقة “أن السياسة تشكل مركز الحياة العامة للمجتمعات البشرية. ولهذا كثرت فيها التعريفات والاجتهادات حيث أصبح نشوء السياسة ممكناً بعدما تخطى الإنسان مرحلة العيش البدائي وبعدما أدرك ضرورة الحياة الاجتماعية. فالسياسة – بحسب الموسوعة- هي فن ممارسة القيادة والحكم وعلم السلطة أو الدولة، وأوجه العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفي تعريف أكثر دقة وشمولاً يمكن القول بأن السياسة هي النشاط الاجتماعي، الفريد من نوعه، الذي ينظم الحياة العامة، ويضمن الأمن ويقيم التوازن والوفاق من خلال الشرعية والسيادة بين الأفراد والجماعات المتنافسة والمتصارعة في وحدة الحكم المستقلة، على أساس علاقات القوة. والذي يحدد أوجه المشاركة في السلطة بنسبة الإسهام والأهمية في تحقيق الحفاظ على النظام الاجتماعي، وسير المجتمع.” وتضيف الموسوعة بعض التعاريف السياسية بطريقة نقدية أو ساخرة، يقول زرائيلي: “إن السياسة هي فن حكم البشر عن طريق خداعهم” أو القول بأنها “فن تأجيل تأزم المشكلات والمعضلات” إلى القول بأن “السياسة هي صراع أقليات منظمة” إلى قول نابليون بونابرت: “بأن السياسة هي تنظيم الجماهير المستعدة للتضحية في سبيل المثل”.
والنتيجة أنه مهما يكن أمر تنوع تعريفات السياسة، فإن المؤكد هو أنها من حيث كونها الوسيلة الاجتماعية الوحيدة للتنسيق والتوفيق بين المطالب السياسية والاجتماعية اللامتناهية للفئات والجماعات الاجتماعية، وبين الموارد المتناهية والمحدودة للمجتمع عن طريق الكوابح وتنمية مشاعر التضامن الاجتماعي، وحفظ السلم والاستقرار، فإنها شكلت – تاريخياً – الأرضية الأساسية الضرورية للتمدن، والحياة الاجتماعية المتقدمة.