الشيخ “حسن جربوع” الملقب “بالقديس الدرزي”…قاوم الاحتلال بأمانته

مجلة الشمعة
مجلة الشمعة - مجلة الشمعة

بقلم : معين حمد العماطوري

شكل المرحوم الشيخ “حسن جربوع” شيخ عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز، قبل قرن ونيف من تاريخ “جبل العرب”، ذاكرة اتسمت بطابع العلم والتقوى والزهد والتواضع، والمواقف الوطنية النضالية، حيث قاوم العثمانيين والفرنسيين بنزاهته، وحصل على ألقاب تشريفية من أعدائه، اضافة لأعمال ومأثر مازالت حاضرة الى اليوم.

نسبه:

يعود نسب المرحوم الشيخ حسن جربوع الملقب بابي يوسف، إلى عائلة جربوع الكريمة، التي استقرت في قريتي الكنيسة وكفرقوق وخربة عزي في وادي اليتيم، وما لبثت هذه العائلة الكريمة أن انتقلت مع هجرة أهل كفرقوق في القرن السابع عشر إلى جبل العرب “مدينة السويداء”، واتخذتها مقراً لها، برز منها شخصيات دينية ووطنية وقادة اجتماعية، منهم الشيخ يوسف جربوع الملقب أبا سلمان، والذي تقلد الرئاسة الدينية، وولده الشيخ سلمان عن والده عام 1803 واستمر لغاية 1815، ثم تنازل لابن شقيقته المرحوم الشيخ احمد جربوع وهو أول شيخ عقل لطائفة المسلمين الموحدين الدروز من آل جربوع، لتصل بعدها الى المرحوم الشيخ ابي يوسف حسن جربوع رحمه الله. 

علمه وفقه:

ما أن استطاع المرحوم الشيخ حسن جربوع الإلمام بالقراءة والكتابة حتى ختم الكتاب المقدس عن ظهر قلب، وأخذ يغدق من العلوم النورانية بشتى مناهل المعرفة العلمية التوحيدية، فحفظ التفاسير على تنوعها، وبات حجة للعلماء برأيه السديد وعقله الرشيد، وسيج علمه بحفظه الكتب السماوية ما جعله حجة ورباط في الرأي والمشورة، ومرجعاً لأهل عصره، الأمر الذي رمقه الفقهاء بعين التبجيل لحسن سلوكه ومسلكه ونواياه الصافية، بعد أن وصفه معاصروه بمهيب الطلعة مديد القامة، طيب القلب، دمث الأخلاق، لطيف المعشر، بشوش الوجه، فصيح اللسان، طاهر الجنان، ان نطق فبعلم، وان صمت فبحلم، لا يرى بهجة إلا بربه، ولا يأنس الا بقربه، فأصبح محجة لكل سائل ومريد.

حياته:

في مطلع شبابه تزوج الشيخ حسن جربوع ورزق بأربعة أولاد ذكور وهم “يوسف ووهبي وحمود ويحيى” والأخير رزق به في سن متقدم، فاعتنى بتربيته واستطاع ان يزرع فيه من علمه ما تيسر له من الفقه والعلوم بعد ان ختم الكتاب المكرم، وتوجه بالسلوك والمسلك القويم، وقد خلفه من بعده ابنه حسن الذي سمي على اسم جده المتأثر بآثار سلفه، صدقاً وأمانة، وحسن المعاملة، والتقوى والزهد، وهو والد سماحة الشيخ يوسف جربوع شيخ عقل طائفة السلمين الموحدين الدروز في سوريا اليوم، فهو خير خلف لخير سلف.

تقليده مشيخة العقل:

اتسم تكوين مشيخة العقل في جبل العرب، طابع الوراثة، حيث تسلم آل جربوع المشيخة الدينية نتيجة بروز شخصيات مؤهلة والمجمع عليها اجتماعياً وإنسانياً ودينياً، بسلوكها ومعرفتها، خاصة وان البلاد كانت تخضع لأحكام الاستعمار العثماني وتدخله في محاولة تفتيت البنية التركيبية، باتباعه سياسية التتريك.     

تميز الشيخ حسن جربوع رحمه ببحثه الدؤوب في اكتساب العلوم والمعارف النورانية، ولأن مشيخة العقل اتسمت بالوراثة، فقد كان جده المرحوم الشيخ احمد جربوع شيخ عقل، والمرحوم الشيخ حسن تربى في كنف جده، فحين انتقل الجد الى جوار ربه، انتقلت مشيخة العقل إلى والده المرحوم الشيخ وهبي جربوع، ما لبث ان رحل مبكراً عام 1888، فاجتمع اهل العقل والحكمة من مشايخ، وأعيان السويداء والزعماء، واسندوا مشيخة العقل الى الشيخ حسن جربوع، الذي بدوره اعتذر عنها، وانتقل الى قرية الكفر خوفاً من أثقال وهموم ومهام مقاليد مشيخة العقل من جهة، وابعاده عن زخارف الدنيا من جهة ثانية، بعد ان أتخذ لنفسه مسلكاً خاصا به، غير أن عمه الشيخ حمد نجم جربوع وهو أحد زعماء العامية (1888-1890)، قصده طالباً منه النزول عند رغبة المجتمع، فعاد من قرية الكفر إلى مدينة السويداء، وتقلد مقاليد مشيخة العقل، فاستطاع ان ينشر في القرى الأمر والنهي، والقضاء العادل، بالإضافة الى الارشاد والتوجيه، والعلم والفقه.

بعد عدة سنوات من استلامه مشيخة العقل قام ببناء مقر العبادة بالسويداء المعروف اليوم (المجلس الغربي) بالتعاون مع عائلات السويداء، جمع فيه المشايخ وشجع العلم ونشر تعاليم المدائح النبوية والآيات، ونقل أداء الأناشيد الروحانية في المأتم مثل قصيدة البردة للبوصيري بمدح النبي، وأسس ركناً معرفياً سمي (المدرسة المذهبية)، والخلوات لاكتساب العلوم، ومركز لاجتماع اهل الدين والفقه واللغة، وانتزع الرأي ببناء صرح تنويري جامع لعصور خلت من الزمن الغابر، وهو الكائن جنوب السويداء مستعيناً ببنائين من لبنان، ومازال لليوم هذا البناء قائماً ومعروفاً باسم (مقام عين الزمان) عليه السلام، نسبة للطفل الرضيع الذي اصبح شاباً بهذا الاسم، والذي ذكره المسعودي بكتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر، وهو اليوم مرجعاً دينياً اجتماعياً تنويرياً تنموياً يسهم في حماية المجتمع ومرجعاً إنسانياً، من يزوره لابد وان يستذكر مؤسسه المرحوم الشيخ حسن جربوع.

       

إضاءة على سيرته:

حول حياة وسيرة الشيخ “حسن جربوع” موقع الشمعة التقى أحد أحفاده، سماحة الشيخ “يوسف جربوع” شيخ عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز في الجمهورية العربية السورية، وبين قائلاً: «ولد جدي “حسن جربوع” رحمه الله في مدينة “السويداء” سنة 1849، في دار جده “أحمد جربوع” شيخ العقل، وعاش وترعرع في بيئة دينية تنويرية وطنية، فلاحت منذ صغره علامات النبوغ المبكر، والميل إلى العلوم الروحية بوجه خاص، وبعد أن تلقى تعليماً مكنه من استيعاب العلوم التنويرية وحفظ المقدس منها عن ظهر قلب، واطلع على أقوال الحكماء والأنبياء، وأخبار الصالحين وسيرهم، فنمت ثروته العلمية، وصار من أشهر علماء عصره وأوفرهم ثقافة، فورث منصب مشيخة العقل من والده المرحوم الشيخ “وهبة جربوع”، وفاق سلفه علماً ومعرفة، وغدا مرجعاً أعلى لأبناء جيله، وعلماً يقتدى بأمانته وصدقه وموقفه تجاه ارتباطه بالأرض وحفاظه على العرض، الأمر الذي جعل أعداءه يخشونه، ويحترمونه قبل أصدقائه.

وتابع سماحة الشيخ يوسف جربوع شهد العصر الذي عاش فيه جدي “حسن” موجتين من الحكم الأجنبي توالتا على بلادنا، وهما الحكم التركي ثم الاستعمار الفرنسي، ونشأ الشيخ أواخر الحكم التركي، وفي عام 1896 نفي مع بعض أعيان الجبل إلى “تركيا” في عهد الحاكم العثماني “ممدوح باشا”، وبقي فيها سبع سنوات، ثم فرَّ مع زملائه المنفيين عائداً إلى بلاده ليتابع مسيرته الدينية والاجتماعية الإصلاحية مقاوماً الاحتلال العثماني، ويقضي ما تبقى من سنوات عمره في مقاومة الاستعمار الفرنسي بمواقف وطنية، حيث دون بين صفحات التاريخ انه قاوم الاستعمار بأمانته وصدقه.

مواقفه:

وعن مواقفه ضد الاستعمار الفرنسي بيّن الباحث “جميل أبو ترابي” صاحب كتاب “شيوخنا الأعلام” بالقول: «كان رحمه الله لا يقبل مال الحكومة الاستعمارية، وقيل: إن الجنرال “غورو” أرسل إليه من “بيروت” مالاً بظرف مختوم، فلم يقبله، وردّ المال مع المبعوث، فقد كان المال تعويضاً عن داره التي هدمها الطيران الحربي الفرنسي إبان الثورة السورية الكبرى حين قصفت “السويداء”، وفرنسا كانت تحاول أن تستميل بالمال بعض أعيان الجبل ليوافقوا على سياستها الاستعمارية.

ولما حضر المفوض الفرنسي إلى “السويداء”، أخبره حاكم الجبل يومذاك عن مسلك الشيخ ونزاهته، وأنه لم يطلب لنفسه حاجة قط، بل طلبه دوماً ينحصر في المصالح العامة، فقلّده المفوض وقتها وسام جوقة الشرف، وهو أرفع وسام تمنحه فرنسا في تلك الأيام، لكن الشيخ لم يكترث بالوسام، ولم يحمله أبداً، فغضب الحاكم الفرنسي لذلك، وبقي الشيخ مصمماً على موقفه فنعته الحاكم الفرنسي حينئذ بـ”القديس الدرزي”.

زار الأماكن المقدسة لأطياف متنوعة وأقام بها الطقس المناسب، حتى روي عنه انه مر في منطقة أشاروا له ببناء جديد بني حديثا، وهذا البناء هو كنيسة، فقام بزيارته، واقام بالكنيسة قداساً، أذهل من حوله بالقداس، دلالة علمه وفقهه، كظاهرة تنويرية في عصره، وبين العلماء آنذاك، والأهم أن أمانته وصدقه كانتا نوع من المقاومة خاصة ضد الاحتلال، حتى خشي من أمانته الأعداء.

وتابع الباحث “أبو ترابي” بالقول: «من ملامح شخصية الشيخ “حسن جربوع” أنه مهيب الطلعة مديد القامة، متواضع دمث لطيف المعشر، تقي ورع، تلوح على محياه علائم الطيبة والتسامح والبشاشة والبساطة المرتشحة برداء شفاف من روحانية صافية، حيث عرف عنه شغفه اللامحدود للعلم، ونشره المعرفة والوعي بين أفراد المجتمع، إذ كان يقوم بجولات على القرى لنشر ثقافة الوعي آسراً الناس بكلامه وجمله وأفكاره، وقبل رحيله ظل معتكفاً في خلوته ملازماً للعبادة، لا يشغله عنها شاغل من أمور الدنيا ليلاً ونهاراً، حتى أقعده المرض.

الرحيل:

بعد ان خاض في معترك الحياة ومعاناتها، وشكل ظاهرة بمواقفه ومسلكه العرفاني، وبعد ثمانية عقود من الزمن، ولان الحياة لها بداية ونهاية، والايمان بالقضاء والقدر ركنا توحيديا، اذ لكل اجل كتاب، وبتاريخ ٢٨ ذي القعدة 1347 الموافق 1929، فاضت روحه الطاهرة معانقة سماء الخلود، بثمانين عام من التقوى والورع والعلم والمثابرة….

أقيم له حفل تأبيني مهيب، شارك فيه “حوارات وأعراب البادية وإقليم البلان”، ومناطق أخرى بعيدة، كما شاركت الدولة الفرنسية بدورها في هذا الحفل ممثلة بالحاكم الفرنسي في المنطقة، ووضع الوفد الفرنسي على نعشه أكاليل الزهور، ومشى الحاكم في جنازته إلى مثواه الأخير، وحضر مراسم دفنه في “المجلس الغربي” بالسويداء، ومازال مدفنه محجاً لكل الزائرين الى يومنا…رحمه الله…

 رثاه المرحوم الشيخ الأديب محسن قرقوط بقصيدة وجدانية معبرة جاء فيها التالي:

لله أفزع من حزنٍ غشى كبدي                    وأطلبُ العونَ والإمداد بالجلد

مالي أرى الهم يعلوني بكلكلهِ                     والنفسَ زاهقةً من معظم الكمد

ولم أر الخلقَ في ضوضاءَ مزعجةٍ               ذهلاً يتيهون في غمٍّ وفي نكد

هل حادث جللا ذا اليوم حل بنا                  أم شدة نزلت من أفضع الشدد

الخطب أعظم مما قد نطقت به                   أظنه لم يفت في سالف الأمد

إني لأسمع صوت النعي في اذني                هل الفقيد فقيد العلم والرشد

بلى وربك حقا قد قضى حسن                    وأودع النار في الأحشاء والخلد

قضى المنار الرفيع المستضاء به                كنز العلوم الصحيح القول والسند

قضى الإمام الذي الأيام تحسده                  فاغتاله الدهر كي يشفي من الحسد

رفقاً ألا أيها الناعي بأنفسنا                       فما أحد منا واع على أحد

أذهلت منا عقولاً طالما رصنت                   وقد رميت صحيح العين بالرمد

لهفي على رجل فرد بلا مثلٍ                     للضر محتمل بالله معتضد

للعلم معتبر بالخير متزر                         للموت منتظر للنفس مضطهد

قم زر ثراه خليلي وأبلهِ أسفاً                      وقل بصوتٍ كئيبٍ تالف الجسد

يا من سمي حسناً أورثتنا شجنا                   أحرمتنا وسناً من لذةِ الرقد

كم قمت في سَحَرٍ كم كنت في سهرٍ              كم بِتَّ في فكرٍ من خشية الصمد

كم كنت تزجرنا عما يكفرنا                       بالبر تأمرنا ذخراً ليوم غد

أستاذنا من لنا والموت منك دنا                   وآهٍ لعصر الهنا ولى ولم يعد

أراك مبتعداً بالصبر منفرداً                       قد كنت فرداً ولكن غير منفرد

في اللحد صرت خفي إذ كنت تفعل في           أداء فرضك فعل الضيغم الأسد

نعوذُ بالله من هولٍ طغى ورمى                   حوران فانصدعت من فعله الحرد

سرى سريعاً بأرض الشام وأرتفعت                سمومه فوق لبنان على البعد

الدهر أفجعنا في أخذ مرشدنا                     فالدهر مازال للأعيان بالرصد

صبراً وصبراً بني جربوع واعتمدوا                 على الإله فربي خير معتمد

فأنت فيْةٌ قد طاب عنصركم                      سمت مفاخركم عن كل منتقد

نظمتها حسب تقصيري وأن قصرت              عن عد أوصافه في الشرح والعدد

فذكره ملءُ قلبي وهو أعظم من                   فحوى الذي سبكت مرسومة في يدي

استغفر الله من عيبٍ ومن خطلٍ                 والله حسبي ومقصودي وملتحد

وإن غشاني هم قلت متكلاً                       لله أفزع من حزنٍ غشى كبدي   

اخيرا بفقد المرحوم الشيخ حسن جربوع الملقب بابي يوسف، اضافة الى القاب عدة حملها كالقديس الدرزي، وبابور التلاوة للكتاب، والمقاوم بسلاح الصدق والامانة، انطوت صفحة تاريخية تحمل بين سطورها احداثا ومأثر لشيخ مجاهد أحسن باجتهاده، ومقاوما صفا بإيمانه، وصادقا نال السعادة بعرفانه، دخل الخلود وعانق صفاء المعبود رحمه الله….




المراجع:

  • الجردي، وجدي أمين، كتاب مناقب الاعيان الجزء الخامس تأليف الشيخ أبو صالح فرحات سعيد العريضي، الصادر عن مؤسسة ناس- عرمون مفيد وسلمان المهتار عام 2024
  • أبو ترابي، جميل، كتاب شيوخنا الاعلام – مخطوط
  • العماطوري، معين حمد، مقال منشور في موقع مدونة وطن eSyria.sy  
شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *