العلاقة بين الطب والأدب

معين العماطوري
معين العماطوري

الدكتور اسعد منذر

كاتب وباحث وطبيب

العلاقة بين الأدب والطب أو بين الطب والأدب، كانت منذ القدم مثارَ نقاش وجدال طويل ومستمر، بعض الباحثين اعتبر أنها علاقةٌ راسخة وأكيدة، بينما أصر آخرون على أنه لا يوجد ما يجمع بين الطب والأدب بأي حال من الأحوال.

الطبيب العراقي محمد الخليلي وفي كتابه (معجم أدباء الأطباء)، يذهب بعيداً في تأييد هذه العلاقة لدرجة أنه يعيد الأدبَ والطب إلى اشتقاق لغوي واحد، يقول الخليلي – وأنا هنا أنقل كلامه دون أن أتبناه – يقول: “إن من معاني الأدب، الدأبَ، وهو الاستمرار في العمل حتى يكون عادة، ومن معاني الطب العادة أيضاً، وقد جاء في القاموس أيضاً – ومازال الكلام للخليلي – الطبُ، مثلثة الطاء، علاج الجسد والنفس، وهو الرفق، والحذق، والعادة”. وقال التبريزي في شرح الحماسة : كان الأدب إسماً لما يفعله الانسان فيتزين به الناس، ثم تطور استعماله فصار يطلق على العادة، وزاد الخليلي أدلة إضافية على علاقة الأدب بالطب منها ما قاله أحد الحكماء بأن الطبَ والأدبَ مثلُ نحلتين حامتا حول زهرة واحدة وامتصتا منها رحيقاً ثم سكبتاه عسلاً صافياً رقيقاً في إنائين مختلفين، ويرى الخليلي كذلك أن الطبيب يعالج الأفراد والأديب يعالج المجتمع فكلاهما طبيب، والطبيب شاعر أجسام والشاعر طبيب أرواح، فكلاهما شاعر…وأول من خالف آراء الخليلي هذه، قريبه المقرب جعفر الخليلي كاتب مقدمةِ الكتاب المذكور (معجم أدباء الأطباء)، يقول جعفر الخليلي في مقدمة الكتاب تلك: “لقد فكرت ملياً لعلي أهتدي إلى العلاقة بين الطب والشعر وأسبابِ إلتقائهما في صعيد واحد فلم أهتد إلى حل، بل بالعكس فقد كانت الأدلة تتضافر على أن بين فن الأدب، ومهنة الطب برزخاً واسعاً لا يجعلهما متدانيين متواصلين”، على صعيد آخر، إذا كان الجمع بين الأدب والطب يعتبر دليلاً على رسوخ العلاقة بينهما، فإن التاريخ القديم والحديث يمدنا بأمثلة كثيرة، أولها (امحوتب) الذي عُرف بالطبيب الأول،  فإلى جانب معرفته الطبية الواسعة ، يعتبر أنه أوَّل مَن أدخل الأفعال في اللغة المصرية وله نصًّ أدبيًّ  يُعرف بـأغنية الهارب، يكشف بعضًا من عُمْق تفكيره وفلسفته، فقد حاول من خلال أشعاره أن يُعلِّم الانسانَ  كيف يصنع من الحزنِ فرحًا، إذ يقول:

“الكلُ يذهب.. الفقيرُ والنبيل.. ومن ادّعى الألوهية

 ماذا بقي من القصورِ بعد أن غابت الحياة؟

هل عاد إلينا أحدٌ منهم؟

نعرف أنّ أحدًا لن يعود،  

فلنقل: هذا جميل، ولنسعدْ به، ولنحيا بإحساسٍ نابعٍ من القلب، ونندهش دائمًا…”.

وفي زمن الحضارة العربية الاسلامية نذكر الشيخَ الرئيس، الطبيبَ ابن سينا، صاحبَ الكتابِ الشهير (القانون في الطب) فإلى جانب كونه طبيباً عالي المعرفة فهو صاحبُ فلسفة خاصة وله باع طويل في الشعر والأدب، يقول متباهياً بفصاحته وبلاغته: “أما البلاغة فاسألني الخبير بها      أنا اللسان قديماً والزمان فم”، وهو الذي عرض أفكاره الفلسفية شعراً كما في قوله عن النفس:

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف

وهي التي سفرت ولم تتبرقع

 وكذلك الرازي الطبيب والفيلسوف، الذي عرض الكثير من فلسفته شعراً كما في قوله:

لعمري ما أدري وقد أذن البلى

بعاجل  ترحالِ  إلى  أين ترحالي

وأين محل الروح بعد خروجه

من الهيكل المنحل والجسد البالي

وهكذا أجازف بالقول إن العلاقة بين الطب والأدب علاقة أكيدة وراسخة، أساس هذه العلاقة هو ما في الطب من فن، وما في الأدب من علم، فالطب ورغم كل التطور الهائل الذي طرأ على أدواته، ما زال يحتفظ بمساحة كبيرة تعتمد على الحدس والصلات الوجدانية والعاطفية بين الطبيب والمريض، وبدوره الأدب هو من أهم العلوم الانسانية، ويلاحظ المهتم بالأدب تطورَ أدواتِ الأديب وتنوعَ المدارس النقدية التي وضعت أسس وقواعد لكثير من الأجناس الأدبية حتى لتلك التي تدعو لغياب الحدود بين  الأجناس، فللشعر قواعده وضوابطه بما في ذلك قصيدة النثر لها مقوماتها وضوابطها، وكذلك القصة والرواية، بمعنى أن الأدب يقترب من محددات العلم بمعناه المجرد، فحتى المتمردون على القواعد صار عليهم أن يكسروها وفق قواعد معينة.

في وجه آخر للعلاقة بين الأدب والطب يكمن في أن ما يميز النص الأدبي عن غيره أن الكاتب أو الأديب ينطلق في النص الأدبي مما تبعثه فيه الحالة الفردية من إحساس وانفعال فيكشف عن الجانب الانساني والمدهش في الحالة الفردية تلك، ومن ثم يضع هذا الاحساس، والانفعال في قالب فني وحركة تصاعدية وتصعيدية ليصل بها إلى مستوى التعميم، وعندما يصل النص إلى المتلقي يرى فيه حالته الخاصة في حركة نازلة معاكسة للحركة السابقة أي العودة من العام إلى الخاص، والواقع نفسه في الطب إذ يتم الانتقال من الحالات الفردية لاستخلاص ما فيها من مشتركات عامة ثم تتم العودة من العام إلى كل حالة فردية تعرض مجدداً على الطبيب، والفارق هنا أن الطبيب نفسه هو من يقوم بدور الانتقال من الفردي إلى العام والعودة من العام إلى الفردي، بعكس الأديب الذي تنقطع صلته بالنص بمجرد نشره، ولكل متلقٍ بعد ذلك حريةُ التفاعلِ مع النص بطريقته الخاصة، فالطبيب والأديب يبدءان من موقع واحد ولكن من نقطتين مختلفتين، فالكاتب أو الأديب يبدأ من ذاته وهي خارج الموضوع (أي الواقعة أو الحالة الفردية)، بينما الطبيب يبدأ من الموضوع (أي المريض) وهو خارج الذات (أي الطبيب) ويسيران في مسارين متقاربين، في كل منهما قدرٌ يزيد أو ينقص من الحدس والاحساس والانفعال، ثم يلتقيان من جديد عند الموضوع (الفرد أو الجماعة).

من نافلة القول، أنه لكي يبدع المرء في الأدب لابد أن يمتلك الموهبة ، ومن يمتلك الموهبة فهو بلغة الفلسفة أديب أو شاعر بالقوة، وكي يصبح  أديباً بالفعل فلابد من صقل موهبته بمزيد من المعارفَ والثقافة والمران، هنا وبانحياز معلن أقول: إن امتلك الطبيب الموهبة ينتج أدباً رقيقاً متميزاً، ذلك لأن الطب يوفر له فرص صقل الموهبة وتشذيبها ويمده بمخزون فريد من التجارب الانسانية، وهكذا لا يبدو مستغرباً ما قاله الطبيب الروائي والمسرحي البريطاني W.Somerest وليام سومرست موم ): إن على كل أديب أن يمارس عملاً لبعض الوقت في مستشفى لتتعمق خبرته، وبرأي الشاعر التشيلي بابلو نيرودا: “عندما يُبدع الطبيبُ فنًّا، فإنه يكون الأجمل والأصدق والأدقّ، لأنّه لا يَتخيّل المعاناة البشرية، بل يَعيشها ويُعالجها”، أن مهنة الطب بكل جوانبها المختلفة غنيّة بمواضيعها، جميلة بـمآلاتها ومبدعة بتعقيداتها، تلهم صاحبها وتمده بعناصر الإبداع الحقيقية،  تمنحه خبراتٍ حياتيةً ثمينة وتجعل كتاباتِه أكثر زخماً وعمقاً وتفهماً، فالطبيب هو أكثر من يرى الإنسان في حالات قوته وضعفه ومخاوفه وتناقضاته، يرى الانسان مجرداً من كل الأقنعة، ويرصد إحساس الخوف من المرض ومضاعفاته،  يرى مشهد الموت الرهيب مرارًا، وهو مرغم على سماع آخر كلمات المحتضرين وبكاء فاقديهم، وهلوسة الغائبين عن الوعي، ويسمع صرخة القادم إلى الحياة وضحكات مستقبليه.

الأطباء يقتربون جداً من الآلام البشرية المسموعة والصامتة، الأطباء يعايشون الموت البطيء والسريع، والتوتّر الدائم، وكل ما يدفع إلى حالة من الانفعال والتفاعل والدهشة حيث يبدأ الفنّ وينتهي.

يعيش الطبيب لحظاتٍ مليئةً بالفرح والسعادة عندما ينقذ مريضاً أوشك على الموت  ويرسم البسمة على وجوه أقربائه ومرافقيه، وينتابه الإحباط إن فشل بإنقاذ مريض وهو يرى الحسرة والدمعة في عيون محبيه، إنها مشاعرُ حلوةٌ ومرةٌ في آن ، وكلتا الحالتين تشكل موضوعاً أو مادة لعمل يلامس أكثر ما في الإنسان من أحاسيسَ مرهفةٍ رقيقة إذا ما صيغت بأسلوب أدبي جميل و لغةٍ تُخاطب أعماق النفس النبيلة وجوانبها الإنسانية، وبالمقابل فإن للأدب دور مهم على أداء الطبيب واقترابه أكثر فأكثر من الصورة المثالية لممارسة المهنة، وفي هذا الصدد فإن د.محمد كامل حسين وهو الحائز على جائزة الدولة التقديرية للعلوم الطبية عام ١٩٦٦م في مصر، أجاب عن سؤال أحد تلامذته عن أفضل طريقة لتعلم الطب بالقول: “هناك طريقة واحدة لتتعلم وتصبح طالب طب ممتازاً، أن تجلسَ بجانب سرير المريض وتتحدثَ معه وتفحصَه وتتعلمَ منه، ثم تذهب إلى البيت وتقرأ شكسبير “

نعم، إنه رأي دقيق وحكيم، فقيمة الحياة لا تنفصل بأية حال عن العلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية، إذ يكشف لنا الأدب تجارب الآخرين ويقدِّم الأساس الأفضل للتأمُّل الأخلاقي.

يقول الطبيب جافن فرانسس (Gavin Francis)  ان الاشتغال بالأدب يجعلنا نكتشف مواطن إنسانيتنا، ويسلط الضوء على حياة الآخر ويوسًع من دوائر الإدراك لدينا .

للأدب دور أساسي في الوصول إلى الذات واكتشاف معالم النفس والنجاح في التواصل مع الآخرين، فمن خلال الأدب يكتسب الطبيب الطرائق التي تمكنه من التعامل مع المرضى الذين ينتمون إلى خلفيات مختلفة وهو ما يعزز الجانب التواصلي لعلاقة الطبيب – المريض الكتابة الأدبية في أصلها حالة وجدانية ترسم تخوم البحث والتنقيب في عمق النفس الإنسانية، وكل إنسان يمثل تجربة قائمة بحد ذاتها تحاول أن تفتح منافذها للذين يبحثون عن تجربة الآخر ومساره من باب الاستكشاف والاستفادة والمتعة، ومن هنا فإن الممارسة اليومية للطبيب وما تثيره في داخله من مشاعر وتساؤلات واشكاليات، لا يجد إمكانية الإجابة والتعبير عنها إلا في قراءة الأدب وممارسته.

مما تقدم يمكن القول إن الفعل الطبي يمكن أن يصبح فعلاً درامياً يضم ثلاثة أطراف: مريض وطبيب ومرض. لكل طرف حكاية : طرف يحكي وطرف يسمع ويدوّن ما يقوله المريض بدقة وبألفاظ المريض نفسها، حيث اللغة فاعل أساسي ومفتاح رئيسي في فهم الحكاية وتشخيص المرض، وبين لحظة وأخرى يطرح الطبيب  سؤالاً  يدفع المريض للتحدث والإفصاح عن تفاصيل أكثر، فالمريض مركز الحدث، والطبيب يسمع ويسأل ويلاحظ ، ثم يفحص مطبقاً مقولة أبقراط : “ما الطب إلا فن استخدام الحواس الخمس”

الحدث هو المرض بالطبع، وليس من الضروري أن تنتهي رحلة المرض نهاية سعيدة، فمهما كانت طريقة العلاج فإن الشفاء ربما لا يعني نهاية القصة، بل بداية قصة جديدة.

وفي هذا السياق ظهر في تسعينيات القرن الماضي مصطلح “الطب السردي  narrative medicine” وهو ببساطة الطب الذي يُمارس مع التمتع بالقدرة على السرد وفهم المواقف السردية المعقدة بين الأطباء والمرضى والزملاء والجمهور.

ففي بعض جامعات الدانيمارك يُلزم طلاب الطب دراسة الأدب ويفُرض عليهم مقرر “أدب السرد والخيال”، ليكونوا في المستقبل أكثر قدرةٍ على الاستماع إلى المرضى خلال سردهم لمسار أمراضهم، مما يمنحهم القدرة على فهم ما يقوله المرضى والتواصلِ بشكل أفضل معهم.

كما أن جامعة كولومبيا في نيويورك  خاضت مشروعاً مماثلاً، بإشراف البروفيسورة ريتا شارون، وخلصت إلى أن الأدب مع الطب يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على تطور الخيال لدى الأطباء، والانتباه إلى تدفق المعلومات المنطوقة وغير المنطوقة وجميع التفاصيل من كلمات مرضاهم وأجسادهم، كما يساعد الاهتمامُ بسرد الحكايات الطبيبَ في اختيار التشبيه الأفضل لإيصال المعلومة إلى مرضاه ، ويساعد المرضى في التعبير عن تجاربهم الداخلية وإيصالها لطبيبهم، فعلى سبيل المثال، يتم التعبير تقليدياً عن عمل جهاز المناعة الانساني في تصديه للجراثيم والعوامل الخارجية عبر تشبيه العملية بأنها معركة  وساحة حرب، بينما يمكن التعبير عن ذلك بطريقة أكثر شاعرية إن شبهنا الأمر بحديقة يتم تشذيبها وحمايتها، ورغم أن استخدام تشبيه المعركة هو تشبيه حقيقي وواقعي، لكنه يثير أفكاراً مختلفة في عقل كل مريض. (مثال ارتياح المرضى لتسمية دواء السكر بالمنظم)، بعد كل ما قيل لابد من الإشارة بطريقة سريعة ومختصرة إلى بعض النماذج من الجمع بين الطب والأدب.

المستوى العالمي نذكر:

الأديب والطبيب الروسي تشيخوف:

كان يرى أنّ الطبّ وسّع مداركه وأثرى معارفه بطريقة يصعب على غير الطبيب تقديرها، وفي إحدى مذكراته يقول: إن دراستي للطب أسهمت كثيرا في تطوير وإنضاج عملي الادبي فقد وسعت مجال رؤيتي للحياة وزادت معرفتي بها ، وربما من خلال الطب استطعت ان أتجنب كثيراً من الأخطاء، ظلّ تشيخوف يمارس الطبّ حتّى أقعده مرض السل، بل وقضى عليه في عمر الرابعة والأربعين تاركاً إرثاً أدبيّاً خالداً.

المستوى العربي:

كثير من الأطباء الأدباء منهم الطبيب والشاعر ابراهيم ناجي صاحب قصيدة “الأطلال”، كان  طبيبا متميزا وإنسانا رقيقا، رؤوفا بالمرضى، وهو من مؤسسي رابطة الأدب في مصر وأولُ رئيس لها، ووكيل جماعة “أبولو”، ورداً على تساؤل الناس عن الجمع بين الطبّ والأدب  أجاب بشعر قطع به قول كل خطيب :

والناس تسأل والهواجس جمة
الشعر مرحمة النفوس وسره
والطب مرحمة الجسوم ونبعه

 طبٌ وشعر كيف يتفقان
هبة النفوس ومنحة الديان
من ذلك الفيض العلي الشان

تجاوزت أعمال ناجي التأليف إلى الترجمة، وظلّ مخلصاً لمرضاه حتّى توفّي في عيادته وهو يستمع لقلب مريضه.

 يوسف إدريس:   

عمل طبيبا لعدة سنوات قبل أن يقرر التفرغ للأدب والكتابة، تميزت قصصه بالواقعية وأهلته دراسته الطبية إلى سبر أغوار النفس البشرية في أعماله، فكان يعرف مشكلات الجسد ومشكلات الحياة وتعقيداتها، مما شكل منطلقاً لعدة موضوعات في قصصه اختار يوسف إدريس أسلوب التصوير الواقعي، وصفه الأديب والناقد صلاح فضل، بأنه يمتلك وهجاً خاصاً وقد منحته مهنة الطب قدرة إبداعية فائقة، وأعطته الدراسة الطبية منهجاً علمياً، من خلال اختلاطه بالمرضى، وتعرفه على مشكلات الجسد ومشكلات الحياة  وتعقيداتها.

الأطباء الأدباء السوريين:

الأديب الطبيب وجيه البارودي:

استطاع الجمع بين الطب والأدب، فكان الطبيبَ البارعَ المشهور، والشاعرَ الملهمَ المحبوب، وقد عبر عن ذلك بقوله:

أتيت إلى الدنيا طبيباً وشاعراً
أروح على المحموم أشفي أوامه
فأسقيه من روحي رحيقاً ومن يدي

 أداوي بطبي الجسم والروح بالشعر
بأجمع ما أوتيت من قوة الفكر
مريراً فيشفى بالرحيق أو المر

 وكان شديد الاعتزاز بمهنته وشعره، إذ يقول:

أنا حيّ بمنجزات نضالي
وبطبي وخبرتي وبحبي

 وبشعري الذي يظل طريا
سوف أبقى مخلَداً أبديا

ويقول أيضاً :

أنا نغمٌ في الطب والشعر والهوى

أنا علمٌ بين الشوامخ شاهـق

  لم يشغله الطب عن إبداعه الشعري، بل زاد من رهافة إحساسه وعَمِّق رؤيته للعالم وكشف له المزيد من خفايا العلاقات الانسانية ، وقد عبر عن فخره بذلك بقوله:

فلي جـــناحان مـــن طـبٍّ وأدبٍ

حَلَّقتُ ما أحد في الكون يدركني

الدكتورة نجاة عبد الصمد:

تقول الدكتورة نجاة عن تجربتها مع الطب والأدب : لا اظن أنّ الكتابة خيارٌ أو قرار، لعلّه استسلامٌ لدويٍّ يطرق رأسي منذ وعيت، لم يقدر على انتزاعه لا الاشتغال في طب التوليد على مدار اليوم، ولا العبء الفكري والجسديّ والعاطفيّ أثناء وبعد كل جراحةٍ أجريها هي الأخرى بشغفٍ يتجدّد، يتنازع الشغفان فيما بينهما ويتفقان عليّ ، عقلي ينتصر للطبيبة فيّ، ويسرقني هواي إلى الأدب …لا أنكر أنّ أحد حظوظي الرائعة في الحياة أنني طبيبة، فعلى عكس ما يعتقد كثيرون أنّ الطبيب محايدٌ تجاه الألم، فإن الطبيب يبكي كلما رأى حياةً تسيل من جرحٍ غزير النزف، وحين يكون الطبيب كاتبًا فألمه مضاعفٌ ألف مرة، يبكي من جوّاه الذي لا يراه أحد لأنه تعلّم كيف يخفي بكاءه وكيف يتفهم الألم بعقله لا بقلبه ، الطبيبة مني تعالج الداء، والكاتبة فيّ تنتشل الحكايات من الاندثار وتسلمها لعدالة الزمن.  

الدكتور نزار بريك هنيدي:

أخيراً أنتهي إلى التأكيد على أن العلاقة بين الطب والأدب علاقةٌ حقيقيةٌ جميلةٌ، إن قيضت لها الأسباب تنتج بالتأكيد أدباً أكثر واقعية وأعم فائدة، فيصبح النص الأدبي معبراً عن بواعث الروح وشجون الوجدان وهموم المجتمع، وتنتج طباً أكثر رومانسية وحميمية، فالقلب تلك العضلة النابضة يصبح (ينبوع الوجود، تنتشر منه أنهار إلى كل أنحاء الجسد، أنهار تروي الجسد الجاف، فتجلب الحياة للإنسان، وإذا جفت يموت)، ويصبح الدواءُ الحبةُ مشتقاً من الحب والمحبة.

يقول د. نزار: عندما اخترتُ الطب مهنة لي فقد اخترته بشكل واع لأنه يضعني في تماس مباشر مع أوسع شرائح المجتمع وفي أوضح حالاتهم الإنسانية مما يساعدني في التقاط الأسس التي أقيم عليها مشروعي الشعري، فالطب مهنة مكاشفة ومودة، المريض أمام طبيبه شخص ضعيف وصادق، يعترف بأوجاعه بلا مواربات ادّعاء القوة، مما يجعل الطبيب أمام كنز حقيقي من الضعف الإنساني النبيل، يحتاج فقط أن يكون قوي الملاحظة، ويحمل على الدوام كاميرا الروائي، ومع كل مريض حكاية تستحق الافصاح عنها ، ليس على الطبيب الأديب إلا  أن يفتح مسام روحه لاكتشاف الجمال في حياة مرضاه بصفته  صديق حنون، ساعتها سيهدونه الحكاية كهبة تنير عقله.

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *