بنى ثابتة وتاريخ متحرك

معين العماطوري
معين العماطوري

الدكتور عاطف البطرس

مفكر ناقد وأديب

 أمام عالم معولم يتميز بسرعة انتشار المعلومة وفي عصر الانفجار المعرفي والإنتاج الاجتماعي للثقافة، (مأسسة نو الثقافة) محلياً وعالمياً، زالت الحدود بين الثقافات واختلطت الثقافة الوطنية القومية وتفاعلت مع غيرها من النتاجات الوافدة عن طريق ثورة الميديا والاحتكاك المباشر، أو عن طريق الترجمة.

أصبح من العسير أن نتحدث عن ثقافة صافية نقية، أو عن مثقف معزول، هناك تداخل ثقافي وتلاقح معرفي وتخصيب إبداعي، حتى عن طريق الاستفادة من الأشكال الفنية المنتجة في سياقات مختلفة، كالرواية مثلاً، والشكل أصبح رصيداً رمزياً يمكن استثماره، والاستفادة منه بتحميله مضامين محلية، هذا التلاقح لا يلغي الخصوصيات المميزة لكل ثقافة تكونت عبر تجربة تاريخية لها سماتها المحددة وطرائقها في التعبير، والخطر في معارضة الخصوصيات المحلية بالسيرورات العالمية.

في خضم هذا التفاعل الخلاق يعيش المثقف أشبه ما يكون بحالة انفصام بين ثقافة كونية يتعاظم تأثيرها باضطراد، وبين واقع متخلف تشكل أبنيته الثقافية أحد الثوابت التي لا بد من تفكيكها وخلخلتها للانطلاق إلى أبنية حديثة لا تلغي ما شُيّد وإنما تؤسس عليه، في عملية انفتاح تقوم على استيعاب أحدث منجزات الثقافة العالمية والمعرفة البشرية.

مثقف اليوم يعيش شكلياً في العالم الحديث، وعملياً في واقع مخلّف، يحاول اختراقه وتجاوزه، لكنه لا يستطيع بفعل تراكم إحباطات ليس أولها ضعف التقاليد الديمقراطية، وهيمنة الفكر الغيبي، وثقل السلطات الاجتماعية والتخلف الحضاري، والمحاولات المتعمدة والعفوية لإقصائه وتهميشه وإبعاده عن ساحة الفعل الاجتماعي، بل يعيشها مجتمعة.

مثقف اليوم يوجد في عالم قديم، بفكر حديث، بالتوازي مع مشكلات وعلاقات يفرزها عالم قديم، هو منتمٍ بأناه الأعلى إلى الغرب الحديث، بكل ما أنجزه. بينما أناه الدنيا يرتع في واقع مختلف جذرياً يقمع طموحه وتطلعاته إلى التغيير والانتقال إلى النموذج المنجز تاريخياً (الغرب) وهو ثمرة حضارة لها سياقاتها وظروف تكونها، هذا التناقض بين بنية ثابتة وتاريخ متحرك يفضي آلياً إلى البناء الداخلي التكويني للمثقف، ويطرح السؤال الملح: في أي زمن يعيش المثقف العربي؟

هذا يقودنا بالضرورة إلى مفهوم تعدد الأزمنة وتنوعها.. صحيح أننا نعيش زمناً حسابياً ميكانيكياً واحداً، ولكن ثمة مفاهيم ومعايير أخرى للزمن: الزمن الاجتماعي، الزمن الثقافي المعرفي، الزمن التقني… إلخ.

تداخل الأزمنة التي يعيشها المثقف تشكل بناءً طابقياً لا يقوم على التواصل والاكتمال، واستخلاص النتائج وتعميمها والبناء عليها، وإنما هناك زمن في الحقيقة متقطع، كل مرحلة فيه تلغي سابقتها دون أن تؤسس عليها، وكل بداية وكأنها من الصفر، مما يعطل عملية التراكم المعرفي، التي هي جوهر العملية الثقافية. ولعل ثنائية الأصالة والمعاصرة، إحدى ثمار هذه الازدواجية، والحقيقة أنه لا تعارض بين المفهومين، لأن الواقع العملي والتجربة الحياتية تقول بتحديث القديم وتأصيل الحديث، أو بصيغة أخرى، القديم المحدث والحديث المؤصل مع استخدام خلاق لجميع إمكانات التخصيب الإبداعي، القائم على أحدث منجزات التهجين المعرفي.

لقد أدّى تداخل الأزمنة، والأبنية الطابقية إلى تعدد الأنماط الثقافية: نمط ثقافي ماضوي، تقليدي، أصولي، استرجاعي، يحاول أن يشد الحياة إلى الوراء، ويعتمد على النقل ملغياً العقل، ونمط استشرافي مستقبلي، لا يعترف بالحلول الجاهزة والإجابات المسبقة المنتهية، نمط لا يؤمن بالمطلقات والدوائر المغلقة للزمن والفكر، الثابت الوحيد لديه، هو قانون المتغيرات. نمط ثقافي يؤمن بحق الاختلاف والتسامح بوصفهما المظهر العملي للتنوع الذي يغني الثقافة تأسيساً على أن حق الاختلاف هو اللازمة المنطقية لاستيعاب المغايرة، والسير في زمن مستقيم لا يعيد إنتاج نفسه متكئاً على منظومات تآكلت لزمن مضى لا يمكن إرجاعه.

ما أجمل وأكثر إلحاحاً أن نستبدل بمظاهر الانغلاق الانفتاح المدروس والمبرمج، وأن نتخلص من سطوة الإجماع بالتفرد وضرورات التشابه بالتنوع، وسؤال الماضي بسؤال المستقبل.

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *