بقلم : معين حمد العماطوري
تعتبر ظاهرة القناع في الشعر قديمة حديثة فهي وأن لم تدخل القرون في زمنها الوجودي بل دخلت العقود القليلة المعاصرة للقرن الماضي، لكنها تحمل رؤية مواكبة بين عصرين مختلفين ومذ نشأت لدى الشاعر البياتي، وتوالى عليها الشعراء إبداعاً، والنقاد غاصوا في بحور المعرفة بحثاً ورؤية وإضافة لإضفاء على مفهوم القناع في الشعر والبحث في ماهية تقنيته كشفاً مضمراً في التحليل والتركيب التكويني الذي يتعامل مع النص الادبي بوصفه بنية لغوية تحمل سياقين هما التاريخي والاجتماعي، ويأتي الغوص في الصورة والدلالة والمعنى، لبناء رؤية لدى الباحث أو الناقد في اتخاذ التراث العربي والإنساني نهجاً في بحثه، وقاعدة في عرض مشكلات الواقع العربي الراهن وقضاياه، وذلك من خلال شخصيات تراثية تاريخية يتفاعل معها الشاعر المبدع المعاصر ليجسد تعبيراً وتوصيفاً لمعاناته المعاصرة بلغة الحاضر.

ربما ما قدمه الباحث والناقد “قصي عطية” في كتابه /تقنية القناع قناع المتنبي في الكتاب لأدونيس/ يجعلنا نقف برؤية ونظرة مختلفة عما يحمله مفهوم القناع التقليدي فالباحث درس شاعرين بمقارنة ومفارقة في الزمن والعصر، متكئأ على مرجع للأديب والفيلسوف والشاعر “أدونيس” بعنوان /الكتاب، أمس المكان الآن/الصادر عن دار فواصل والواقع في مئتين وثلاثين صفحة من القطع الوسط، والمقسم إلى ثلاثة فصول..
لعل الكاتب والباحث قصي عطية في منجزه النقدي يطرح رؤية استهلالية في المنهج الذي يقوم عليه البحث وذلك من خلال ما قدمه مؤكداً على تعدد أشكال استحضار التراث العربي في الشعر العربي المعاصر عبر تقنيات بنائية مثل: (الاستدعاء، والتناص، والمرايا، والقناع) الخ… بحيث جعل حضور التراث سمة فنية من سمات هذا الشعر وتقنيته وفق دراسة ومنهج لـلقناع…
وقبل اطلاق حكم القيمة على هذا المنجز النقدي الهام، تراني مضطراً اقتباس رؤية المؤلف حينما استهل بمقدمته مبرراً له في البحث بمفهوم القناع وتقنيته بين جيلين مختلفين في الزمن، رغم حداثة ولادة القناع إلا أن الناقد اتخذ من استحضار المقارنة في المعالجة البنيوية والتفكيكية التحليلية والتي سيجدها القارئ في متن الكتاب، باختلاف في المعنى والدلالة والرؤية بين الشخصيتين، ولكنه يطرح أسئلة متنوعة يجيب عليها في التقسيم المنهجي للكتاب..
فقد أكد الناقد قصي عطية أن أدونيس يعد من أوائل الشعراء الذين استخدموا تقنية القناع في شعرهم، منذ ديوانه الأول /أغاني مهيار الدمشقي/ الصادر عام 1961، متخذا من شخصية مهيار الدمشقي قناعاً يعبر من خلاله عن بعض ما كان يشغله من قضايا فكرية، وفي الكتاب، أمس المكان الآن يتخذ من الشاعر العباسي ابي الطيب المتنبي قناعاً له، يضفي عليه أبعاداً معاصرة، ولهذا بدت الشخصية ممزوجة بين التاريخي والفني.
والكاتب يطرح أسئلة يجيب عليها من خلال التقسيم العلمي والمنهجي في كتابه حيث يطرح:
لمَ اختار أدونيس شخصية المتنبي، لينسب إليها كتابه ولم يختر شخصية شعرية او تاريخية أخرى؟ وما هدفه من ذلك؟ وهل وجد في المتنبي، وسيرتيه التاريخية والشعرية، ما يلبي غايته من وراء ذلك التقنع؟
هل أراد أدونيس، من إعادة قراءة التاريخ العربي، أن يضفي على تلك القراءة نبرة موضوعية، لا تتحقق من دون تقنيات القناع؟
وهل كان يدرك ان قراءة التاريخ مسألة حساسة، ولا سيما أنه لم يأبه بوقائع التاريخ، التي دونتها عقلية اليقين- السلطة، بل أخذ يبحث في بنية ما هو ضائع على هامش التاريخ والتدوين؟
ثم هل كان تقنعه وسيلة للهرب من النقد، الذي يمكن أن يتعرض له بعد أن اقترب من المحظور، والمقدس؟.
وفي النهاية، هل نجح أدونيس في توظيف قناع المتنبي في نصه الشعري؟.
اعتمد الباحث في كتابه على المنهج البنيوي التكويني، بحيث قدم قراءة لغوية تعتمد على تفكيك النص والدخول بأجزائه ومكوناته، وصولاً للبنية الجزيئة تمهيداً للانتقال للبعد الاجتماعي، ومن خلال مستوى العملية النقدية الداخلي للنص، والثقافي للمنتج، أي بين البنية الاجتماعية المحيطة بالإنتاج، وبين الرؤية، من خلال مجموعة مستويات منها التحليل القائم على كشف العناصر والمكونات والمفاهيم، والتفسير الواصل بين العناصر في علاقات تمنحها معنى ودلالة، وربطها وظيفياً بشكل بنيوي، بحيث يتم الربط بين البنية الذهنية والوعي الاجتماعي، ثم المقارنة كي تتجلى المقارنات والمقاربات…
بحيث يقوم الكتاب على دراسة (قناع المتنبي في كتاب الكتاب، أمس المكان الآن)، عبر مقدمة، ومدخل وثلاثة فصول وخاتمة.
جاء المدخل لتحديد مفهوم (القناع) في النقد العربي، ثم توقف في الفصل الأول عند (تجليات القناع في الكتاب، أمس المكان الآن)، واجمل هذه التجليات في: السرد، الوصف، الدراما، وتعدد الأصوات، والتناص، والسيرية.
وتناول في الفصل الثاني (وظائف القناع في الكتاب أمس المكان الآن) شارحاً بالتفصيل في: التجدد، والانبعاث، والاستكشاف، والاستشراف، وإثراء اللغة، وبين أرخنة الوقائع وشعرنة التاريخ، والبؤر الدلالية التي شكل بعضها مركز إشعاع في الكتاب مثل: الفجعية والمأساة، والغربة والنفي، والصوفية، ورؤية العالم.
وفي فصل الثالث خصص لـــ(سمات القناع) القائمة على: التأويل، والهدم والبناء، والشك، والتجاوز والتخطي، وجاعلاً من الكتاب، أمس المكان الآن، مشروع مفتوح للبحث والدراسة…
لعل ما توصل اليه الباحث من التحليل والتفكيك في متن النص النقدي بلغة رشيقة جذابة ومنهجية عالية قائمة على المقاربة والتحليل في الزمان والمكان والأسلوب والتفكير والمضمون وبصورة توضيحية لمفهوم القناع لغة واصطلاحاً وفق ما يتطلبه النقد الأدبي وخاصة السيرورة التاريخية للقناع…والتوصل الى أن القناع الذي كونه أدونيس من خلال المتنبي في الكتاب، أمس المكان الآن قناعاً عميقاً شمولياً، استطاع، على مدى ثلاثة أجزاء، أن يحافظ على بنائيته، وكليته، على الرغم من أن حضور المتنبي في الكتاب يختلف من جزء إلى آخر، ومن قسم إلى آخر، وطريقة توظيفه أيضاً مختلفة وغير متوازية، ولكن على الأغلب نجد أن صوت أدونيس اختفى وذاب في صوت القناع، فكان حضوره القوي وفاعل تاريخياً وفكرياً ودلالياً.
وأن أدونيس استفاد، من الفضاء الأرحب الافتراضي وما انتجه واستحدثه الانترنت، فأنتج نصاً جديداً متمرداً على الشكل البنائي الثابت، نصاً تتداخل فيه عدة أجناس أدبية، متخذاً من شخصية أبي الطيب المتنبي قناعاً له، وهو قناع تجلى نصياً عبر عدة تقنيات مثل: السرد، والوصف، والحوارية، والتناص، والسّيرية.
والأهم كي لا يحرم القارئ من متعة التلقي والقراءة يطرح الكاتب والناقد قصي عطية مجموعة استنتاجات وصلت الى تسعة عشر رأياً تتلخص بما توصل إليه من بحث وعمق ودراسة…
وفي رأي أن الكتاب (تقنية القناع قناع المتنبي في الكتاب لأدونيس) هو من الدراسات النقدية التطبيقية الهامة التي تحمل رؤية ثقافية وتطلعات إبداعية يقيناً أن حكم القيمة حمال أوجه في منهجية واقعية بين النقد ونقد النقد والحداثة وما بعدها…خاصة وأن الكاتب فارس في ميدان اللغة والسرد والتحليل والتبويب والتأويل والتجاوز والتخطي…وقد فتح الباب أمام الباحثين والدارسين في المنهج النقدي على اختلاف المدارس النقدية نحو تكوين رؤية علمية بمنجز جمع بين قطبين من أقطاب الشعر في عصرين مختلفين المتنبي وأدونيس ولكل منهما رؤية وأسلوب وطريقة وفكر وشخصية، ووضع قواعد منهجية يسد فيها فراغاً لمن أراد تقديم الجديد في الزمن القادم، فهو بحق كتاب جدير بالقراءة اليوم وغداً ويسد فراغاً في المكتبة العربية وضمن البحوث والدراسات النقدية الجادة.