الأستاذ الدكتور عطا الله الرمحين
أستاذ الإعلام في جامعة دمشق
حاولت النازية الألمانية، على غرار أيديولوجيات التفوق في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي جنوب أفريقيا وغيرها من البلاد المعاصرة، أن تتخذ لها مرجعية فلسفية مبررة لما تنتهجه من سلوك تجاه المغايرة واختلاف الاعراق البشرية، محاولة منها لتأصيل ايديولوجية الاشتراكية القومية ولتبرير ما اقترفته النازية من جرائم في ناميبيا الأفريقية ضد الأفارقة الزنوج، وما عمدت إليه في عقر الديار الالمانية وبأجوارها الأوروبيين من إبادة الجنس اليهودي في تنور المحارق الغازية. لم تكن النازية هفوة استثنائية في مسار الحضارة الغربية، ولا كانت ارتداداً عن نهج التقدم والرقي المستمد من مراجع العقيدة الموسوية المسيحية ومن مكاسب الفكر اليوناني وقد حاول بعض التوابين من المفكرين الألمان ومن المؤرخين الأوروبيين، غسل وصمة النازية والفاشية والبلشفية عن الحضارة الأوروبية، على غرار ما رامته الكنيسة الكاثوليكية في بداية ستينيات القرن الماضي من تبرئة اليهود من دم المسيح، فاتخذ مجلس القساوسة في ذلك صك براءة رسمياً، واستتابت كنيسة الفاتيكان أهل الأديان المنزلة بما فيها الإسلام من استنكار شرعيتها القدسية. ان خيوط تأليف كثيرة تصل النازية في ما اعتمدته من مرجعية ايديولوجية وفي ما استباحته من جرائم إبادة الزنوج واليهود والبلشفيين والنامبيين والألمان المتخلفين ذهنياً، وما رامته من سيطرة عالمية تصلها بالتاريخ الغربي وتنتظمها في مسار هذا التاريخ. فقد نشأت النازية في بيئة القومية الاشتراكية كظاهرة سياسية متجانسة مع تيار القوميات العرقية في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. وتغذت من مفاهيم الأنثربولوجية العنصرية القائمة على تراتب – الأجناس البشرية على شرائح هرم تفاضلي تتربع على قمته الجنسية الآرية الجرمانية واستقت (۸) اعتمد المؤلف في هذه المقتبسات على Yves Eudes, La Conquite des esprits: L’Appareil d’exportation culturelle du gouvernement américain vers le tiers monde (Paris: François Maspéro, 1982).”
” في مرجع ثالث من مذهب داروين في الانتقاء وبقاء الأفضل ثم أخذت من النظرية المثالية القاتلة بضرورة اضطلاع جنس مفضل بقيادة المجتمع البشري ) وقد كان المنظرون النازيون يبررون إبادة اليهود الألمان بأنها اجتنات لشجر الفساد والشر المنبث في الحديقة الغناء، وتطهير للأعراق الجنسية الآرية من جراثيم الاختلاط والعفن ويضاهيهم في هذه النزعة التطهيرية جحافل الطليان في ما اقترفوه بالحبشة وطرابلس والمهاجرون إلى أمريكا في ما جنوه من إبادة الهنود الحمر. ويتعاصر هذا المد العنصري مع ما اقترفه الجند الفرنسيون من إبادة جماعية في مدينة قسنطينة الجزائرية، ومع ما كان يقع بأفريقيا الجنوبية من إبادة المواطنين السود، ويستمر اليوم المد العنصري فيبلغ أفظع مظاهره في ما يمعن فيه جند بني إسرائيل من تقتيل جماعي للفلسطينيين وتخريب للعمران وتدنيس للمعابد وتصحير للحقول والبساتين. ويبرز هذا الارتداد الحضاري كذلك في ما لا يزال يجري أمام أعيننا من إبادة عرقية في مدن العراق ما يذكرنا بمجزرة الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا ومجازر المسلمين في البوسنة والهرسك لا شيء من هذه الوقائع ولا واحدة من بين هذه الجرائم يجوز تبريره بأنه حالة استثنائية في مسار مستقيم للرقي البشري في ديار الغرب في أوروبا وأفريقيا وبجناحي القارة الأمريكية الشمالية والجنوبية. وإن ما نشهده اليوم في أمصار عديدة من ويلات التقتيل والدمار، وما نقرأه في المصنفات الغربية، إن كل ذلك ليس إلا امتداداً لما حفظه التاريخ من شواهد البطش والتنكيل والإبادة والإقصاء في إسبانيا الكاثوليكية، وفي أمريكا الشمالية أواخر القرن الخامس عشر وطوال القرن السادس عشر ويندرج هذا المسار المتجددة شواهده والمتواتر سنده، في إطار معقولية خاصة تقضي بأن الحداثة في الفكر والسلوك لا تُشيد إلا على الأنقاض، ولا تبنى على خط الاستمرار والتسامي بمكاسب البشرية في مسارها الطويل، ولا تتزود في البناء الحضاري بمواد الخصوصيات الثقافية فتضمها إلى الصرح المشيد، بل إن الحداثة بالمفهوم الغربي أساسها الإقصاء الثقافي والانفراد بالمجد، ووسيلتها الاجتماعية الحوار الإملائي الاستعلائي بين الأنا والآخر، أو بالأحرى بين الأنا والآخرين، ومن بقي منهم ونجا من الطوفان الحضاري.”