حارات الأغنياء (الفصل الأخير في الأنا والآخر)

معين العماطوري
معين العماطوري

الأستاذ الدكتور عطا الله الرمحين

أستاذ الإعلام في جامعة دمشق

نسوق في خاتمة هذه الدراسة مثالاً آخر عن ثمن الاختلاف في ما أصبح يتوخاه المجتمع المعاصر من إقصاء وتفريق في تنظيم المدن على أساس انفراد طبقة الموسرين بالسكن في أحياء معزولة مغلقة، تحفظهم من الاختلاط بالآخر الفقير، وتجعل المعاشرة محصورة بين أمثالهم في الرزق والترف وفي المنزلة المعرفية وفي الذوق والسلوك الاستهلاكي. تكونت هذه الحارات الغنية المغلقة المقفلة بأجهزة الكترونية وبجدران سميكة عالية على تخوم بعض الحواضر الفرنسية مثل تولوز ومونبيلييه وبمدن عديدة أخرى مثل ليون ومرسيليا وبوردو. تضم من وراء جدرانها عمارات فاخرة وبيوتاً منعزلة، من حولها المدارس والمصحات والمتاجر والحدائق ومآوي السيارات، وتقوم على حراستها وضمان أمنها أجهزة الكترونية منبهة ومصورات مبثوثة للرقابة فلا يدخل هذه الحارة المنيعة إلا من كان له بها مسكن خاص وبيده المفتاح الإلكتروني المرقم. وإن لهذا الفرار من الآخر ثمناً باهظاً أصبح يدر أرباحاً عالية على بعض البنوك مثل بنك باريبا Pariba) . ونشأ من جرائه ما أصبح يعرف باسم سوق الأمن ودخلت سلامة المسكن في سوق البضاعة التجارية المربحة، وبلغت عقود هذا النوع الجديد في عام ۲۰۰۳ أكثر من ۱٢,٥٠٠ عقدٍ أبرمت مع فرع خاص في البنك يعرف باسم مصرف حماية السكن، وعمت هذه البدعة الكثير من البلاد الأوروبية حتى بلغت المساكن المحمية بإنكلترا ١٥ بالمئة من مجموع الوحدات السكنية.

نعلم أن الفضاء السكني في المدن قديمها وحديثها، يتوزع بصورة شبه مقصودة بين مجموعات متقاربة متجانسة من الساكنين ينضم النازحون من بادية واحدة إلى بعضهم في فضاء مشترك، ويفر إلى الضواحي المتاخمة أهل البيوت القديمة، بعد أن ارتفعت كلفة التعهد إن الحداثة بالمفهوم الغربي والصيانة لأبنيتها، كما حصل بمدينة فاس أساسها الإقصاء الثقافي المغربية أو بحاضرة تلمسان أو القيروان. والانفراد بالمجد، ووسيلتها فينشئون البيوت العصرية بكلفة هيئة أو الاجتماعية الحوار الإملان الإستعلائي بين الأنا، والآخر أو يستأجرون شقة مناسبة في عمارة مشتركة.

ولكن هذا الاختلاف السكني لم يكن يفضي إلى بالأحرى بين الأنا والآخرين، ومن ما يشبه القطيعة الاجتماعية، إذ تبقى بالمدينة فضاءات مشتركة كالمساجد والسوق التجارية، بقي منهم ونجا من الطوفان الحضاري

والمدارس والثانويات، ووسائل النقل العمومية والملاعب الرياضية ودور الشباب وملاهي الترفيه يختلط فيها المتساكنون من طبقات متباينة، ويتعارفون ويتشاورون ويتبادلون الأحاسيس والمشاعر. ولا شك في أن حارات المترفين المستحدثة في المدن الغربية والتي تلبث أن تقوم أمثالها بأوطاننا العربية، إنما هي منازل فرار من الآخر وشاهد استنكار لما به من سمات المغايرة في اللغة والمستوى المعرفي وفي الذوق والملبس وسائر المظاهر السلوكية.

وإن لهذا التعازل السكني، بالإضافة إلى كلفته المالية الباهظة، ثمناً اجتماعياً يتمثل في توهين نسيج الروابط الاجتماعية، وتغليب الانزواء في منازل الفردانية على مراتب التضامن بين المتساكنين، أبناء الملة الواحدة. ولعل هذا التوهين يحوق بعناصر الهوية الثقافية المشتركة. ويعمق الشرخ بين طبقة الموسرين المنعزلين الآخذين بنمط الحياة الغربية في اللغة والذوق والعادات السلوكية، وبين الآخرين، الأهليين، المحافظين طوعاً أو كرهاً على أنماط الحياة التقليدية. وينتج عن ذلك أن الحداثة تصبح مقترنة بالارتداد عن لوروث لا بتطويره، وتعني التخفف من التقليدي واستنكار مظاهره، ولا تعني التمسك به ومحاولة تطويعه لمقتضيات الحياة العصرية. ويختزل مفهوم الموروث في صفة المغايرة بالقياس على نمط غالب عند المترفين المعتزلين عن سواد الكافة، حتى أصبحوا منعوتين في بعض أوطاننا العربية بأنهم الغرباء في أوطانهم المتربصون للهجرة، حقائبهم محزومة وتذاكر السفر محجوزة.

وأصبح النسيج السكني في الحواضر الكثيفة يشتمل على أرباض الفقر والبطالة والبغي والإجرام، في مقابل أحياء الترف والنظام والانضباط الاجتماعي. وباتت أحزمة هذه الأرباض تقيم من حول النواة المركزية في المدينة بيئة المغايرة ومجتمع الآخرين، المهددين للأمن المنحرفين عن النظام والأخلاق الممثلين لحثالة المجتمع المدني يتحاشى التجار لصوصيتهم، ويخشى النسوة سطوهم، ولا يأمن العابرة شرهم في أطراف النهار وساعات الليل. بل إن رجال الشرطة أنفسهم لا يجوبون شوارعهم إلا مكرهين أو لأمر مستعجل

وإن لهذه المغايرة من الطبقات السفلى كلفة باهظة فيما تتحمله موازين البلديات والدولة

من حجم الإنفاق على إنشاء المباني وصيانتها للسكن وللمرافق الضرورية التجارية والتربوية والصحية، وعلى رعاية الأمن ومعالجة البطالة، وأنها لنفقات ثقيلة بسبب ما تمتاز به هذه الأرباض من كثافة سكانية مكتظة، ومن نسبة عالية في التزايد السكاني ومن أمية مستفحلة وبطالة متفاقمة ومن وفرة الإجرام، خصوصاً في شرائح الأحداث والشباب. ولا تنفك السلطات البلدية تحاول التصدي لهذا السرطان العمراني الخانق لنواة الأحياء الوسطى كما في القاهرة أو الجزائر، وتعمل على بعث أحياء منجمة فيها كفايتها من المرافق الضرورية، وتسعى إلى تجنب انقلاب الأحياء المحدثة إلى نسخة من حزامات الأرباض في تركيبتها الاجتماعية المقصورة على حثالة الآخرين ورواسب المختلفين». ولا غرابة أن يترتب على هذا التمزق العمراني بين أحياء المترفين المنغلقة وبين أرباض المهمشين المرسلة وعصابات الإجرام، تصدع البناء الاجتماعي وتوليد مسافة الغربة وتوهين عرى التضامن الداخلي، ما يدفع المجتمع عنه سعراً باهظاً في ساعات العسرة ويتعذر معه استنفار هذه الجموع المتفرقة للاضطلاع بإنجاز مشروع مجتمعي مشترك. وإن لذلك كله ثمناً سياسياً في الأمد الطويل وفي مثالات المجموعة الوطنية على آفاق الجيلين والثلاثة.

خاتمة

لم يبلغ التواصل بين الأجناس والنحل أفقاً مؤاتية مثل التي يتيحها تقدم التقنيات في العقود الأخيرة من أحقاب مسيرة الحضارة، حتى أصبح المنظرون يطلقون نعت القرية الكونية على المجتمع المعاصر.

وعلى ذلك فإنه لم ينزل بهذا المجتمع مثل الذي بات يباعد بين أصنافه وشرائحه، من عوامل التجزئة والفرقة بمراجعها الكبرى الدينية والثقافية والعرقية والاقتصادية. يحوق ببني الإنسان صمم ذهني وعمي في البصيرة، حجاب غشاوة بين الأنا والآخر ومرآة تحريف لمعرفة الذات في سمات المغايرة. وناب عن الإدراك المباشر إدراك بواسطة الصورة، واستمدت الصورة من أوصاف النمط المتداول، وباتت الأوصاف ألواناً باهتة وملامح جامدة، وغدت أصناف الآخرين ذواتاً اعتبارية، وشركات خفية الهوية وواقعاً مطموس الخصائص.

دعت هذه المعرفة المختزلة إلى ضروب من اجترار التاريخ، وغدا الواقع الحي مختزلاً في رواق متحف المومياء المحنطة، حقيقة مجمدة غائبة. فعاد المجتمع الإسلامي، مثلاً، منظوراً إليه اليوم بأوصاف التشخيص الموروث، مجتمع الآخر العدوّ، يجدّد التصدي لعدوانه فترة من فترات الحروب الصليبية. واستمدت مصالحة اليهود ذريعتها من عقدة الآثام المتراكمة في علاقة النصرانية الكاثوليكية بشتاتهم المتفرق بين الأوطان، فلم تر سلطة الكنيسة بداً من اتخاذ قرارها عام ١٩٦٢ بتبرئة اليهود من دم المسيح. يتواصل تدخل الأمم القوية في شؤون المجتمعات المستضعفة وأصبح هذا التدخل حقاً مشروعاً في القوانين والأعراف الدولية، واجتراراً لأحقاب طويلة من الغزو الاستعماري ومن الابتزاز الاقتصادي.

زماننا هذا الأعرج، تغطت فيه شفافية الواقع الاجتماعي بحجب الاختلاف الأيديولوجي وتلوّثت حميمية القربى بين شرائح المجتمع بعقاقير الفرقة والتباغض، وجفت دلالة الذات الإنسانية بعوامل التسطيح الوظيفي، وحكمت عقلانية العولمة على الخصوصيات المميزة بأنها من أوزار التخلف الحضاري، ومن رواسب الأمية التكنولوجية. وهي ذاهبة لا محالة إلى زوال. وأن الحضارة الجديدة زادها الصور المنمّطة، كما في معقولية الاقتصاد الليبرالي الإنسان عندها طاقة للإنتاج، وبطن للاستهلاك. ولا حاجة لهذه الحضارة بذوات وجودية مزركشة يتعدد بينها الاختلاف إلى ما لا نهاية له. وتُدخل عليها هذه المغايرة فوضى الشذوذ عن النمط وتخرج بها عن ضوابط الإحاطة والحصر.

ذاك تفقير لوساعة الإدراك، ولكن أنّى لهذا الفقر المنمّط أن يكبّل الإدراك، وأنّى لهذا التضليل أن يطمس ثروة الاختلاف، وأن يهدر زاد المعرفة من المغايرة. أني لمسيرة العلاقات الاجتماعية أن تحبطها «نهاية التاريخ». وأن تتغلب على نوازع المعاشرة وعلى حوافز السعي في شعاب المغايرة عوامل الاستنساخ لنمط فرداني، محنّط، في مجتمع كالأشباح، وسط مدن كالمقابر، لحياة بلا حمية، ولمثالات بلا فجاج عريضة.

فوق كل هذه الجدران العازلة تعلو الثقافة، ثقافة الائتلاف، حافظة هوية الذات، مبررة معقولية، الاختلاف، مطهرة المغايرة من عدمية الفناء. بذورها مزروعةٌ في سريرة الأنفس، إذا صفت من كدر التعصب وشواهدها قائمة في رحاب الحضارة متى سمت بالواقع الإنساني عن أروقة التحنيط، وكانت الملاذ الآمن من موت الثقافة ومن ثقافة الموت1

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *