معين حمد العماطوري
رئيس تحرير مجلة الشمعة
تطرح رواية “حجر أسيوط” للكاتب والروائي غانم بو حمود مجموعة من الاسئلة التي أطلق عليها عنوان “التساؤلات محظورة” تتضمن فلسفة القيم الاجتماعية وهي تحمل تأويلات متعددة ومتنوعة من جوانب الحياة جميعها، إضافة لطرحها إشكاليات فكرية وتصوفية وإنسانية واجتماعية من خلال النص الادبي، ولعل القارئ للوهلة الأولى يشعر أنّها اسئلة سياسية أو اجتماعية أو شخصية ويمكن ان تتداخل فيما بينها بمعطيات مضمرة في نواح عديدة، أو أنها تحمل عنصر التشويق في ظل السرعة والصورة الخاطفة التي نعيش اليوم ومتطلبات النص السردي، ولكن الكاتب جعل تلك الاسئلة دائرة معرفية، يجوب فيها بما يشاء من الأفكار والعلوم الفلسفية والباطنية الصوفية والجدلية والرومانسية التاريخية، وذلك بتعدد المشاهد والصور حتى يتخيّل المرء انه يقرأ تارة قصيدة جميلة ذات لغة شعرية معبأة بالانزياحات والدلالات لمحبوبة مجهولة الهوية، ولكنه لا يستطيع البوح بحبه لها، وجعل فضاء ذلك الحب عالم افتراضي عمل على تكوين متخييل لنفسه، ودخل في عالم السعادة لوحده، وأفاض من جمال لحظات السعادة ما يشعر القارئ بمتعة التلقي، دون التخلي عن واقعية الحدث او استخدام القناع في السرد الروائي أو الشعر تارة أخرى، فهو شاعر قبل ان يكون روائياً، ولعل رواية “حجر أسيوط ” ولدت من رحم معاناة شاعر مكلوم، وتضمنت أكثر من مائة وخمسين صفحة من القطع الوسط، وهي الصادرة عن دار” الغانم للثقافة” ولكنها تتدحرج نحو عالم التخييل الواقعي تارة، والفلسفي، وكذلك الصوفية، وهو الباحث عن الذات بتأمل وسمو وارتقاء ومشاهدة تارة أخرى، وكذلك الى الغرائبية في تكوين الحدث بدلالات رمزية تشتم منها رائحة الحياة الساكنة في سماء الصفاء، حتى يرسي دون حساب لذلك نحو اللاواقعية التاريخية الفانتازيا.
ولكن ثمة السؤال الأهم ما بعد قراءة الرواية كنص أدبي ومدى علاقتها بالقيم الاجتماعية؟
قبل الإجابة لابد من وضع منهج لدراسة رواية “حجر اسيوط” والتي تتمحور في :
– تصنيف الرواية
– الشخوص واللغة والأحداث
– الحبكة الدرامية بالسرد
– الرواية والقيم الاجتماعية
– وحدة التنوع في الرواية
تصنيف الرواية:
قد يبدو تصنيف الروايات عملا ميكانيكياً مملاً، لكن للأسف فإن الخطأ في تصنيف روايـة مـا يقود إلى خطا في تفسيرها، وبالتالي إلى انعدام القيمة والمتعة، اللتين كانتا من الممكن استخلاصهما من قراءة الرواية.
إنّ قراءتنا لرواية كتبت في عصرنـا الراهـن لا يضمـن أن نحسـن تصنيفها. غير أن احتمال ارتكاب مثل هذا الخطأ يزداد عند قراءتنا لرواية كتبت في الماضي، إذ قد تكون مثل تلك الروايـة قـد كتبت لقراء كان لديهم توقعات وافتراضات ومفاهيم تختلف عن توقعاتنا ومفاهيمنا وافتراضاتنا، يمكن تصنيف الروايات تقنياً وتاريخياً، وفي الواقـع فـإن هذين العنصرين يمكن أن يتشابكا إذ أن نماذج معينـة مـن الروايات تزدهر في مراحل تاريخية معينة، ولكن رواية “حجر أسيوط” متشابكة في دلالاتها ومعانيها المضمرة، وكذلك في بنائها الفني فهي تطرح حوالي ستين سؤالاً، كل من هذه الأسئلة له أبعاده النفسية والاجتماعية والفلسفية والتاريخية، ولعل السؤال الأهم هل كنا بحاجة لرواية تحمل التمرد في قالب التأليف، لتحويلها من مشاهد وفصول الى أسئلة مشروعة وغامضة في دلالاتها ومعانيها؟
أم ان الكاتب أراد ان يشارك المتلقي في صناعة واقع يحمل ما ذكرناه آنفاً من خلال الشخصيتين الرئيسيتين وهما الاسيوطي والدمياطي، والبحث ما بين السطور الى ما يحتاجه المرء في ظل واقع متردي ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً؟
ولادة ناجزة:
ربما لم يستطيع الكاتب من خلال شعره وشاعريته أن يساهم في رسم ما يشعر به من آلام واقعية، فأراد أن يتّخذ من جنس الرواية بوحاً جديداً لاتساع أوسع، وفضاء أرحب له، في التعبير عن بركانه الإبداعي في السرد، والاجابة على أسئلة راودته، وتراوده في لحظات نهاره وليله، حتى تفجرت ينابيع اللغة والصور بنص ادبي نثري دخل عالم السرد الروائي بعمل ناجز.
يشير الناقد الدكتور خليل الموسى أن ولادة الرواية كانت لحاجـة فنية ماسة في اقترابها من الحياة أكثر الأجناس الأدبية الأخرى، التي تقترب من الحياة بخجل وبخوف وحذر، فقد كان الشعر ذا حـدود صـارمة، وكانت التراجيديا والكوميديا جنسين شعريين على طرفي نقيض، وكأنهما في حرب طاحنة، فالحدود فيما بينهما مغلقة تماما منذ عصر ارسطو والاقتراب منهما ممنوع وخطر ومزروع بالألغام، ولا يسمح بالتداخل فيما بينهما لضخامة الحصون ومتانة السدود، ولكل منهما ابطال مختلفون عن تلك.
الـرواية إذن قطعـة من الحياة الاحتمالية، قطعة من الحياة تحولت إلى جـنـس نـثـري أدبي جميل، يصف الحياة البشرية بشخوصها وأحداثها وصورها الاحتمالـية مستخدما في ذلك، جميع التقانات والأساليب التي ورثها من أجداده، والتي يصادفها في الحياة والفنون والمعارف والآداب ويهيمن عليها، الـرواية نص أدبي مختلف الأدبيّة، ولذلك هناك رواية إخبارية ورواية أدبـيـة، وعلامـات الأولـى أنها نص عادي، وموضوعها أهم من أدبيتها ومقدم عليه، أو أن الموضوع طاغ على الأدبية، فإذا كان النص رواية تاريخية، فهو يحمل من التاريخ أكثر مما يحمل من الأدبية، وكذا شأن الأيديولوجيا أو السياسة والدين أو الواقع الاجتماعي أو النفسي …الخ، ويكون هذا النص شبيها بالنظم في العلوم (النحو – التاريخ – الطب)، وهذا النص عادي لا يحتاج إلا إلى فهم، وهو يقدم فائدة علمية، ونطلق عليه مصطلح “رواية إخبارية”، والمعلومة في هذا النص قبل المتعة الأدبية[1]
نصل لقناعة على حد تعبير د. الموسى أن الرواية أولا وأخـيـرا نـص أدبي مفتوح، أو هي عالم خاص ومستقل، الرواية أخيراً مرآة مختلفة عن أي مرأة أخرى، ولذلك أنت ترى نفسك فيها مختلفاً حيـن تنظر في مرآة أخرى، كل رواية مختلفة عن الأخرى، ولكلّ رواية عالمها واستقلالها وطبيعتها وكينونتها وما يميزها عن سواها، ومن هنا سر نجاح هذا الجنس وانتشاره: التنوع والحركة.
نلاحظ ما ذُكر من رؤية انطباعية في النص النثري الروائي تنطبق بشكل أو بآخر على ما يضمره الروائي “غانم بو حمود” او ما يصنف عمله الروائي الناجز فيه ضمن دائرة تحمل اتساق وتموضع ذو أبعاد تأملية تتنوع فيه الحركة المستمرة والمشاهدة التاريخية بشخوصها وقيمتها الفنية.
وبالتالي نترك تصنيف رواية “حجر أسيوط” وفق دلالاتها ونصها السردي إلى مجموعة من معايير الأدبية التي من شأنها تحميل القيمة الفنية كإطلاق حكم قيمة على مضمون النص، وتحديد الاتساق العام للتوجه والمعيار الأدبي والفني، والذي أقرب ما يكون في رأي دخوله عالم الفنتازيا الرومانس.
الشخوص واللغة والأحداث
لقد اعتمد “غانم بو حمود” بروايته “حجر أسيوط” على شخصيتين هامتين في متن الرواية وهما الأسيوطي، والدمياطي، ووضع الرابط بينهما مفهوم الرحيل او الرحلة في عوالم متنوعة، بحيث استخدم لغة شعرية بمهارة الشاعر التجريبي في نصه الشعري، إذ يكاد لا تخلو جملة من جمله دون صورة انزياحية ذات دلالة، وهذه اللغة التي الزم نفسه بها من بداية النص حتى آخر جملة فيها، ينبيك عن شاعر يعيش الحب المتجدد، والإبداع التقني المتضمن القيم الاجتماعية والجمالية في شعره كنص إبداعي نثري سردي البسه بلبوس الجنس الروائي، مستخدماً علم الجمال في الطريقة والوصف والتعبير.
ريتشاردز [2]يؤكد مهما كانت مساوئ علم الجمال الحديث كأساس لنظرية النقد الأدبي، فلابد من الاعتراف بالتقدم الكبير الذي تحقق في مجال التأمل قبل عصر العلم في طبيعة الجمال. لقد طرد ذلك الجمال الشبح المذهل الذي يفوق الوصف، المطلق، غير القابل للتحليل، الفكرة البسيطة، ورحل معه أو سيرحل معه عما قريب حشد من الكيانات المتماثلة زيفاً. والحق أن الشعر والإيحاء معاً مازالا يضفيان جلالاً على قطاعات محترمة بفضل وجودهما فيه، الشعر كالحياة، يعد شيئاً واحداً، مادة مستمرة، أساساً، أو طاقة دائمة، الشعر، تاريخياً، حركة مترابطة، سلسلة من البيانات المتكاملة المتعاقبة. فكل شاعر، بدءاً من هوميروس أو أسلافه حتى يومنا هذا كان بدرجة ما وعند نقطة ما. ودعماً لحكم القيمة بالنص الروائي نلاحظ قول الرواي وهو يجيب على أحد الأسئلة:[3]
أتعتبين على عيني استراقهما النظر؟
وأنا الذي يموت كل يوم مثلما تموت أزهار الياسمين، ليبزغ كل يوم من جديد ينشر عطره عند مواعيد الراحلين إلى رؤياهم. لا الإهمال كتابي، ولا العنف نشيدي.
يقول العاشق: “على شجرة اللوز نضجت حبتان، كونهما تشبهان عيني رسولتي، ما اكتفيت بواحدة، بالأخرى احتفيت.
قلت للخريف: “لا تشاكس أهدابهما” بكل جنون العاشقين أتيت.
سألت الريحانة ذات الثمار السوداء أختها ذات الثمار البيضاء:
“ما دمنا ننتمي لعائلة الرياحين يـا أختاه، أليس من الغرابة أن تـكـون ثمارك بيضاء، بينما ثماري سوداء، هي الشمس نفسها تشرق علينا، ونشرب من ماء واحد، كما نتنفس نحن الاثنتين ذات الهواء.
“أجابتها الأخت على استحياء:
“لا بأس علي يا أختاه، ولا بأس عليك في أن تكون ثمارنـا مـن حيث اللون في اختلاف، ما دمنا ننشر عطراً واحداً، ونقدم نحن الأختين للمرضى ذات الدواء”.
قالوا: “دعوه أميّاً لأن الكتابة والعلوم والحكمة كانت فطرية لديـه أي أنها ولدت معه يوم ولدته أمه، وليست مكتسبة”. “جلال الدين الرومي”
هذا النص يمثل القناع التاريخي باستخدام التناص الفكري والذهني عند جلال الدين الرومي، ولكنه وظفه بسياق نص روائي أدبي شعري مزج فيه النص الأدبي مع القيم الاجتماعية والإنسانية التي ابتغاه الرومي.
أيضاً إضافة للشعر والنثر والنص هناك ثقافة موسوعية واضحة حين يذكر شخصيات ساهمت بإثراء الثقافة العالمية والعربية حينما يقول[4]:
غير أنني سأبقى بـاراً بـوعـدي، أتخيـل مـا قصصته علي من قصص، منتظراً بشغف ما ستلقيه على مسمعي من جديد.
اسمع يا الدمياطي ما كتبته لها: لست مؤلفاً موسيقياً كـي أنـوت علامات جمالك لمعزوفة تصدح في ساحة (سان ماركو) يرتلها رهبان (سانتا ماريا) لكنني أحبك…لست شاعراً كي أنظم بأبجدية جمالك قصيدة تهزم (شكسبير) يغبطني عليها (امرؤ القيس)، لكنني أحبك.
لا أملك صـوت (إيـد شيران) كي أجعـل مـن أنفاسك أرجوحة لأغاني لكنني أحبك.
لست (ما يـكـل أنجلـو) كـي أنحـت علـى يـاقوت حلمي فينـوس الليلك أوطنها متحف روحي، لكتني أحبك.
لست ( ليوناردو دافنشي كي ، وكي ، وكي …. لكنني أحبك
موسيقاي التي لم تعزف أنت، وآيتي التي ما رتلها كاهن.
قصيدتي الـتي مـا نظـمـت مـن قبـل، ولم تخطـر فـي بـال شـاعر، أغنـيـتي المنتظرة، تمثالي المشتهى، أيقونتي أنت، ليس لـكـونـي عاجزاً عن هذا وذاك، بل لأنك أول من أحببت، وآخره لست …
مولاي.
نلاحظ كيف استطاع أن ينقل القارئ ليعيش الشعر والشخوص والحدث التاريخي بقناع إذ تعتبر ظاهرة القناع في الشعر قديمة حديثة فهي وأن لم تدخل القرون في زمنها الوجودي بل دخلت العقود القليلة المعاصرة للقرن الماضي، لكنها تحمل رؤية مواكبة بين عصرين مختلفين ومذ نشأت لدى الشاعر البياتي، وتوالى عليها الشعراء إبداعاً، والنقاد غاصوا في بحور المعرفة بحثاً ورؤية وإضافة لإضفاء على مفهوم القناع في الشعر والبحث في ماهية تقنيته كشفاً مضمراً في التحليل والتركيب التكويني الذي يتعامل مع النص الادبي بوصفه بنية لغوية تحمل سياقين هما التاريخي والاجتماعي، ويأتي الغوص في الصورة والدلالة والمعنى، لبناء رؤية لدى الباحث أو الناقد في اتخاذ التراث العربي والإنساني نهجاً في بحثه، وقاعدة في عرض مشكلات الواقع العربي الراهن وقضاياه، وذلك من خلال شخصيات تراثية تاريخية يتفاعل معها الشاعر المبدع المعاصر ليجسد تعبيراً وتوصيفاً لمعاناته المعاصرة بلغة الحاضر .
الحب المتماهي:
لقد اعتمد الكاتب على السرد الروائي التخييلي في اللغة الشعرية، بحيث اتخذ من حبه لفتاته الساكنة في الفضاء الكوني الاوسع حباً تخرج منه جميع حكايا العشق المرتبطة بالواقع الإنساني والاجتماعي والقيمي، ولعله هنا يجسد منظومة متكاملة من استحضار القناع في لحظات العشق للذين دخلوا التاريخ، إذ هنا يحاول استحضار التاريخ في دمجه مع الواقع المعيش، برمزه دلالات متنوعة في ذلك وكأنه يرمي حجراً في مياه راكدة، فهو يقول[5]:
إفراطك في وصف حبك العذري جعلتني لبرهة ألقي بالحجر أرضاً، إذ كـان مـن الصعوبة عليّ الضحك والحجر جاثماً على كتفي. ألا تعلـم يـا مـولاي أن قيسـاً عـاش حيـاة لا يحسد عليهـا، وهـل يـحسـد مجنون، روميو وجولييت لم يجنيـا مـن حبهمـا سـوى المـوت السريع وهما في ريعان شبابهما، عروة وعفراء لم يلتقيا سوئ بقبرين متجاورين، وبما عانيـاه مـن وجع ومرض وهزال وفراق، إنك تذكرني بقصة ابن زيدون وولادة.
لله درّكم أيها الشعراء، إنـكـم تـبـالغون في عشقكم، وتذهبون بعيـداً لقطاف المستحيل، طبعاً ستقول لي ليس الشعراء وحدهم من يبالغون في عواطفهم وهيامهم، فهناك أيضاً الملوك والقادة والسياسيون، وقس على ذلك، خذ على سبيل المثال كليوباترا وأنطونيو، وماري واللورد بوثول، تصور ماذا قالت ماري: “ليس كبيراً علي أن أفقد عرش اسكتلندا، وعرش انجلترا معاً ما دام (بـوثـول) لـي وحـدي “وتستطرد الروايـات، فتجيئنـا بأمثلـة واردة في بانوراما العشاق، کفیکتور هيجو وجولييت، عباس العقاد وساره، طه حسين وسـوزان، فولتير ومـدام دى شاتليه، الأمير تشارلز وكاميلا، أبـو نـواس وجنان، وجميل وبثينة. دعني من قصص لا تنتهي، وامض بي فالطريق طويلة والعمـر قصير – كان للحجر نصيب في الراحة، وكان لي نصيب في الضحك والإشفاق على العشاق.
يشير دائماً الى الحجر هو ارتباط بالعتبة النصية لديه في العنوان “حجر أسيوط” ولعل السؤال ما هي حكاية “حجر أسيوط”؟
الحبكة الدرامية بالسرد:
أشار الكاتب الى مجموعة من الدلالات التاريخية والاجتماعية والإنسانية، والباحث في عمق التكوين الوجودي لفكرة التصوف الوجودي التوحيدي لشخصية تعود الى عهد قديم غابر في تكوين الحجر الذي ما زال شاهداً على تاريخ وقدم الوقائع التاريخية المركونة في احد المتاحف، إذا هي حبكة درامية متقنة بربط العنوان بالحدث ولكن ما حكاية الحجر؟!
بالعودة الى كتب التاريخ والفراعنة نجد ان اخناتون الذي أراد من حجر أسيوط المكان الذي أقيم فيه ما أراد للآلهة من انبعاثات، وقد جمعت الآلهة في عصر اخناتون بوحدة متكاملة بعيدا عن التنوع وكان لحجر أسيوط حكاية الفراعنة معه، نقل هذا الحجر المنحوت عليه حكاية عشق قديمة الى أحد المتاحف وما زال الى يومنا، ولكن لا أحد او قلة ممّن يعرفون حكايته، إذ لم يعتني به اهل أسيوط ولا اهل دمياط أصحاب الحجر الأصليين، ومن هنا اتخذ الكاتب بحبكته الدرامية شخصيتي الأسيوطي والدمياطي كرئيسيتين في عمله الروائي. وهنا هل يمكن تصنيف الرواية ضمن دائرة فانتازيا أم هي رواية تاريخية، أم هي سيرة ذاتية لعاشق يجسد حالة حب عميقة في واقع مأزوم؟
الرواية والقيم الاجتماعية:
منذ وجد الانسان وهو يبحث عن المفردات والكلمات والمعاني ويربطها فيما بينها لتوصل لصيغة، او لجملة تحمل أبعاداً يستخدمها في حياته اليومية، وينمّي فيها المجتمع سواء بالقيم المعرفية او الثقافية او الاجتماعية السلوكية، وهنا نجد ان رواية “حجر أسيوط” عمل الكاتب على ربط التاريخ القديم بالحديث من خلال العتبة النصية، او العنوان العائد بدلالاته الى عصور قديمة، وبالواقع الحالي المعيش الحامل للتناقضات الاجتماعية المتنوعة، طارحاً المضمون السردي في متن عمله بطرح إجابات على أسئلة محظورة كما اسماها على شكل غائب حاضر، من خلال شخصيات سردية تاريخية “الاسيوطي، والدمياطي” متخللاً بعض الشخصيات مثل لقمان او غيره، ولكن السؤال الذي لابد منه، ما فائدة تعدد عوالم التخييل لدى رواية “حجر أسيوط”؟
وهل استخدامه اللغة الشعرية بصورها الانزياحية دلالة البحث عن المفردات او الكلمات الإبداعية؟
نلاحظ من خلال النص السردي الذي حمله الكاتب عبر مجموعة من عوالم التخييل قائمة على مفهوم النص، شكلت رؤية في طبيعة صوت الكاتب، فهو يحمل مقامات متعددة بعضها شرقية وأخرى غربية، ولكنه يستقيم على هدف مشترك في معالجة القيم الإنسانية والاجتماعية بطريقة تحمل الرمزية، وكأنه أراد ان يشارك القارئ في التوصّل الى مضمون ما يشعر ويساهم بالمعالجة.
وهذا ما أشار إليه الناقد الدكتور قاسم مقداد [6] أنه ماذا يفيد قارئ تحليل قصة ما او رواية إن قلنا له ما قاله أرسكن كالدويل: بأن القصة القصيرة “حكاية خيالية لها معنى”، ممتعة بحيث تجذب انتباه القارئ، وعميقة بحيث تعبر عن الطبيعة البشرية) أو القول عموماً بأن التخييل هو “أفعال كلام متظاهر بها”، كما يعبر الفيلسوف الأنكليزي أوستن قاصداً بأن لا سبيل للتعبير عن الحياة إلا بالكلمات، أي: تكون الكلمات فاعلة بحيث نتمكن عبرها من بناء عوالم ندخل القارئ في تفاصيلها، موحين له بأنها عوالم حقيقية، فيتأثر بها باكياً أو شاكياً أو مرتكباً ردود فعل مختلفة، ناسياً أنه أمام تخييل، أي: مجرد كلمات أو “نمور من ورق” لا تعظ ولا تأكل…على رغم من هذا الإدراك، ترانا ننخرط في هذه العوالم بكل أحاسيسنا ومشاعرنا، بل بكل قوانا العقلية وأحياناً نتصرف في حياتنا العملية على هذا الأساس.
هي الكلمات إذاً…ولكن كان أوستن محقاً وهو يحذر من “فعل الكلمات” أو “الرسم بالكلمات” كما يقول نزار قباني، وقبلهما رامبو وغيرهم كثيرون .
من هنا نجد ان الكاتب بو حمود عمد في نصه الروائي على مزج الفلسفة والتصوف، وما يحمله من سمو وارتقاء في المفهوم والشعور والاحاسيس، وعلى علم الاجتماع والثقافة المجتمعية والإبداعية في طرح إشكاليات إنسانية مفادها، إنّنا في اعمالنا قد ندفن كنوزاً معرفيا وأخلاقية لا نشعر بقيمتها الا بعد حين كما في “حجر أسيوط”.
وحدة التنوع في الرواية:
لا تحتوي الرواية على فصول ومشاهد بل على أسئلة مترابطة من أول العتبة النصية إلى نهاية كلمة فيها، وهي لا تحتوي على قفلات متنوعة أو متعددة، بل القفلة المفتوحة، أي يمكن بناء عليها نصوص إضافية، من جهة وثانية أن لغتها الشاعرية جعلتها تشكل وحدة الشعور المتكاملة للنص، بل أستطيع القول: إن التلون والتلوين في تعدّد الأحداث بربطها بين التاريخ والموروث والتراث، وبين المعاصرة والحداثة والواقع المعيش اليوم بمعالجة منظومة من القيم الاجتماعية، وقد ساهمت هذه الرواية في نشر ثقافة تعاطي الأدب بإيجاد الحلول الناجعة لمشاكل إنسانية واجتماعية، دون حساب لتلك الحلول، وذلك حين يبدأ عمله الروائي بقوله:
محاكمة الروح:
حوارية سورية قبل قرابة 5000 سنة في مملكة اوغاريت، وهي نص عن محاكمة الروح قبل ان تمضي إلى الأبدية، وثيقة نص المحاكمة موجودة في متحف اللوفر- باريس.
هذا النص في البداية هو مؤشر على ربط العتبة النصية “العنوان” بعلم آثار أنه قبل 5000 سنة ومملكة أوغاريت، من جهة ثانية هو فاتحة لمنظومة متكاملة من عوامل الوجود والخلود، ثم يختم روايته عندما يقول:
يقول الشخص الثالث: “على مرأى من نطر السيد تخور قوة الدمياطي، ويسقط عن كتفه الحجر، الذي ما كان سوى فحمة سوداء، مستديرة، تناثرت عند ارتطامها بأرض الصالة، لتخرج منها ماسات بألوان شتى، كان على الطبيب موسى أن يقوم بجمعها وثقبها، لتشكل عقداً يليق بجيد الآنسة نانو قبل ان تُسدل الستارة”.
ينبيك النص الختامي عن رؤيتين الأولى منها الاستراحة في النص السردي، والوصول إلى الهدف المنشود في تفجير ما أراد من أسئلة محظورة دون المساس بشعور السياسة أو الاقتصاد أو النفاق الاجتماعي الذي بات يطل علينا من منافذ الحياة جميعها، والثاني ان اعتمد على القيم التاريخية والتراثية في ربط ما أراد من طرح إشكاليات بالأسئلة المحظورة والإجابة عليها بلغة المضمر في معالجة القيم التي بنظره انهارت بفعل الزمن والواقع المتردي.
أخيراً رواية حجر أسيوط للأديب غانم بو حمود تسد فراغاً في المكتبة العربية، بتصنيفها الفنتازي، وتحمل إشكاليات صوفية فلسفية يمكن مناقشتها في كل حين، حاضرة غير مرتبطة بالزمان والمكان، تحمل بعداً إبداعياً في لغتها الشعرية ومواضيعها بحيث استطاع الكاتب كسر حاجز التقليد في قالب التأليف للروايةـ متجاوزاً الفصول والمشاهد وتعدد الشخصيات بل عمل على تعدد وتنوع الأفكار ومعالجتها، طارحاً إشكاليات وقيم اجتماعية طارحاً علاجها من خلال النص الأدبي الموسوم بدائرة السرد الروائي من جهة وثانياً جعل الرواية قادرة على استيعاب الفلسفة والشعر، يقيناً ان الشعر والفلسفة غير قادرين على استيعاب الرواية، والأهم في هذا وذاك استطاع جعل الرواية تستوعب الشعر والفلسفة دون أن تتأثر بجوهرها وهويتها، بحكم ان السرد الروائي قادر على حمل دائرة من المعارف والعلوم الفلسفية والابداعية وكذلك منظومات القيم الاجتماعية وغيرها، طارحاً في التساؤلات المحظورة فرضيات وتخييل وشاعرية واشكاليات فلسفية واجتماعية، ولعمري هي مساهمة جديدة في التخلص من تقنية البناء السردي الروائي وتجربة جديدة بقالب النص السرد الروائي، رغم بعده بالمباشرة عن معالجة القيم الاجتماعية الي قدمها عبر مضمر نصه، لكنه يشير بدلالة الى البحث والكشف في غياهب النص بكيفية المعالجة والتي تحتاج الى تأمل ووقفة هدوء ساكنة.
المراجع:
- بو حمود، غانم- رواية حجر أسيوط التساؤلات المحظورة- الصادرة عن دار الغانم للثقافة عام 2024.
- الدكتور الموسى، خليل – ملامح الرواية العربية في سورية – الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2006 .
- المؤلف أي. ريتشاردز – ترجمة د. إبراهيم الشهابي- مبادئ النقد الأدبي دراسة أدبية – منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية عام 2002.
- العماطوري، معين حمد، مقال بعنوان التحليل البنيوي التكوني… رؤية نقدية عند قصي عطية- منشور في جريدة الأسبوع الأدبي بالعدد رقم 1700 تاريخ 18/10/2020
- د. المقداد، قاسم، – عوالم تخييلية قراءات موضوعاتية في السرد- دراسة – صادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2010
[1] د. الموسى، خليل، “ملامح الرواية العربية في سورية” الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2006
[2] مبادئ النقد الأدبي دراسة أدبية المؤلف أي. ريتشاردز – ترجمة د. إبراهيم الشهابي- منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية عام 2002 ص 8-9
[3] بو حمود، غانم، رواية حجر أسيوط، رواية التساؤلات المحظورة، الصادرة عن دار الغانم للثقافة عام 2024 ص 34-35
[4] نفس المصدر السابق
[5] نفس المصدر السابق
[6] د. المقداد، قاسم، عوالم تخييلية قراءات موضاعاتية في السرد، الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب