الدكتورة رحاب صالح صافي
عضو هيئة تدريسية في جامعة دمشق
إن جاز لي أن أبدأ بنفسي لقد دفعني فضولي إلى معرفة أصولي، وأصول سكان جبل حوران، وإعمار جبلنا الذي نقطنه الآن عبر العصور، بخاصة بعدما اطلعت على العديد من مؤلفات السادة الباحثين المختصين بالتاريخ والتأريخ، وغير المختصين، سواء المشرقيين، أو الغربيين منهم، دفعني هذا إلى كتابة هذه الأسطر الوجيزة.
أودّ بداية أن أبين مفهوم هذا المصطلح الحديث الديموغرافية Demography، الديموغرافية لفظ يعني علم السكان، أو الدراسات السكانية، وهو فرع من علم الاجتماع والجغرافية البشرية، يقوم على دراسة علمية كخصائص السكان المتمثلة في الحجم، والتوزيع، والكثافة، والتركيب، والأعراق، ومكونات النمو، والإنجاب، والوفيات، والهجرة، ونسب الأمراض، والحالات الاقتصادية، والاجتماعية، ونسب الأعمار، والجنس، ومستوى الدخل وغيرها. والديموغرافية في المعجم العربي هي الدراسة الاجتماعية للناس في مجتمعاتهم، وقد ظهر هذا المصطلح في منتصف القرن الماضي والأخير من الألفية الماضية، حيث تطور تطوراً كبيراً في العالم لاسيما خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مع بداية الخمسينيات على يد الديموغرافي والمؤرخ الفرنسي لوي هنري* Louis Henri، الذي عده الكثيرون مؤسس علم الديموغرافية التاريخية. ومن مظاهر الارتباط بين الجغرافية السكانية والديموغرافية هو دراسة التطور السكاني، والعوامل الرئيسة التي أسهمت فيه، ثم تحديد مراحل النمو، وارتباطها بالعوامل الجغرافية التي تؤثر في التوزيع السكاني تركزاً كان أم تشتتاً، ودراسة الهجرة السكانية. ورغم نسبة هذا العلم حديثاً إلى الفرنسي لوي هنري، إلا أننا نعلم جميعاً أن المؤرخ العربي ابن خلدون واضع علم العمران البشري هو الذي وضع اللبنة الأولى لهذا العلم.
بعد تقصي الحقائق عن أصول السكان في جبل حوران فوجئت بما اطلعت عليه من كتابات حوت تعابير مغلوطة، مما دفعني إلى الخوض في غمار هذا الموضوع، لأننا حينما نتعامى ونتغافل عن تصويب هذه المغالطات فإننا سوف نورث للأجيال المقبلة تركة تاريخية مؤذية.
________________
شغل الفرنسي لوي هنري منصب الأمين العام للاتحاد الدولي للدراسات السكانية العلمية UIESP 1957 – 1961م، كما درّس في معهد الديموغرافيا في جامعة باريس IDUP، وفي مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية EHESS.
وهنا أقتبس ما يعرف بالسينما المعاصرة طريقة الخطف خلفاً في عرض الأحداث التاريخية، إن ما يحصل في عالمنا المعاصر الحالي في بلاد الشام عامة وجبل حوران خاصة محزن ومؤلم جداً للعمران البشري من اضطرابات، وفوضى، وحروب، وفقر، فبينما نرى العديد من المناطق حصل وما زال يحصل فيها من طرد، ونزوح قسري للسكان من بيوتهم، وأراضيهم إلى مناطق أخرى نرى بوضوح التهجير الناعم إن صح التعبير لسكان الجبل الآن بخاصة لفئة الشباب، وتفريغ المنطقة بهدوء، وذلك لضيق الأحوال المعاشية والاقتصادية، واضطراب الأمن والأمان، والفساد المنظم المُمنهج، والمدروس، لذا وجب تصحيح مما دون في الكتب هنا وهناك.
إن بلاد الشام أرض المتناقضات الجغرافية والبيئية، منها الساحل، والجبال، والسهول، والأنهار، والوديان، والصحراء التي هي جزءٌ من الصحراء العربية، كما أنها حلقة اتصال بين قارات العالم القديم آسية، وأوربة، وإفريقية، حيث عبرت شعوب ثم عادت لتعبر ثانية فوق أرضها. هذا الموقع جعلها مستقراً ومعبراً لقبائل عربية، وشعوب غير عربية في العصور الغابرة، قطنتها، واجتاحتها جيوشٌ عدة، حثية، وآشورية، وفارسية، وإغريقية، ورومانية، وفي القرون الوسطى غزاها التركمان، والمغول، والتتر، ثم الصليبيون الأوربيون، لهذا يمكن القول إن سكان بلاد الشام الأصيلين عبر العصور المتعددة على اختلاف مسمياتهم من أموريين، وكنعانيين، وآراميين، وعرب بجغرافيتهم المختلفة، وبالرغم من طغيان مسمى العنصر العربي منذ القرون الميلادية الأولى تأثروا ببعض الصفات العرقية، والقومية التي كانت تتميز بها الشعوب مجتمعة التي احتكت بهم، وللتنويه فقد تميز الحكم في بلاد الشام عبر العصور بعدم الاستقرار، وعدم الخضوع لسلطة مركزية واحدة باستثناء العصر الأموي، حيث خضع لسلطة مركزية واحدة عاصمتها مدينة دمشق، وكان الحكم في العصور القديمة يتألف من إمارات، وممالك مدن مستقلة ذاتياً، اتخذت هوية الحاكم لها، مع الهيمنة للقوى العالمية العظمى آنذاك.
يُعد دخول القبائل العربية إلى بلاد الشام ظاهرة مستمرة، إما بدافع القحط، وانحباس الأمطار، والجفاف الذي كان يقضي على الزراعة والمراعي، وإما بسبب الغزو، أو لطرف عدائي للقبيلة، فجولان القبائل العربية الممتدة من أواسط شبه الجزيرة العربية، أو من العربية الجنوبية (اليمن) إلى بلاد الشام والمشرق جيئة وذهاباً كان منذ الألف الأول ق.م، وربما كان قبل ذلك. لقد تخلل هذا الجولان استيطان بشري حول تخوم البلدات، والمدن لبعض القبائل، والأسر، والأفراد. فحركة الجولان هذه وليست هجرات كما وصفتها الغالبية العظمى من المؤرخين الغربيين كانت تقذف بمجموعات بشرية تستوطن في المنطقة، وسرعان ما تتفاعل مع محيطها لتذوب تلقائياً في الثقافة الأقوى. كما إن مسألة العرب في التاريخ المشرقي من حيث تواجدهم، وجولانهم في فضاء جغرافي من جنوب شبه الجزيرة العربية حتى شمال بلاد الشام عبر العصور حقيقة تاريخية تفرض وجودها منذ القديم حتى حاضرنا هذا، فلا يمكننا غض البصر عن حركة التاريخ في سبيل مواقف، وآراء، وأفكار، ومعتقدات سياسية حديثة، وجولان القبائل العربية في ذاك الفضاء الجغرافي الذي ذكر هو موثق في الأدبيات التاريخية، والأمر لم يكن هجرات كما هو متعارف عليه في كتبنا، ومناهجنا، فنحن أمام انزياحات بشرية عربية نحو الشمال تزايدت في الألف الأول ق.م، منها ما تفاعل مع المزيج البشري السوري المسمى الأموري – الكنعاني – الآرامي، وتداخل شيئاً فشيئاً في النسيج السوري، أو البوتقة السورية في كافة المناطق، ومنها جبل حوران، وربما هناك من عاد إلى دياره ( نقول ربما ولا نقول بالتأكيد).
إن خريطة المواقع الآهلة بالسكان في الجبل كبيرة جداً، وقلة من المواقع القديمة أو الحديثة أُفلتت من مرور الرحالة الغربيين، ولدينا بعض المواقع الشهيرة التي حوت الأطلال المذهلة، كالسويداء، وقنوات، وسيع، وشهبا، هذه الحواضر التي استقبلت جميع الباحثين، والمغامرين تقريباً من ما قبل الحرب العالمية الأولى بعشرات السنوات، وكان أبرزهم بتلر H.C.Butler – وادنغتون W.H.Waddington – فيتزشتاين J.G.Wesztein – بيركهارد J.L.Burkhard – برونوف ودوماسزويكي A.Brunnow, Von Domaszewki – دوسو R.Dussaud – ماكلير F.Macler – وموريس دوناند M.Dunand وبحثه الأثري الدقيق خلال الأعوام 1925-1930م. وقد جاء بعدهم العديد من الباحثين التاريخيين، والأثريين، والأنثروبولوجيين، والشغوفين بالحضارات القديمة من قناصل الدول الأجنبية، ومن الآباء الكنسيين المسيحيين، والمغامرين الذين جابوا المنطقة، وأعتقد أنهم ساروا على خطى بعضهم البعض في عمليات استقصاء الأحداث، والحقائق التاريخية، والأثرية. ونحن لا ننكر على جميع هؤلاء وغيرهم فضلهم في حفظ الكثير من الصور، والرسومات، و المخططات البيانية للمواقع الأثرية ،مع وصفها بالكامل وصفاً دقيقاً، فقد قدمت لنا معلومات أثرية تاريخية قيّمة في مجال التطور العمراني، والبشري للجبل، مع تبيان الأهمية الحضارية، لكن بعد التدقيق و التتبع العميق لكتاباتهم الكثيرة، والقراءات بين السطور يبدو كانت مهمة هؤلاء الذين أتوا من الخلف للمنطقة دفع المسار الزمني وفق آراء وتحليلات حسب ما هو مخطط على المدى البعيد، فنراهم يُنكرون على الجبل ازدهاره، وإعماره بيد ساكنيه الأصيلين من أموريين، وكنعانيين، وآراميين، وعرب جنوبيين، والذين اتحدوا مع بعضهم البعض في وحدة ثقافية حضارية، مكونين نواة المجتمع النبطي في الجبل منذ ألفي سنة. في الواقع يُفاجأ القارئ بأن بعض الباحثين العرب ما زالوا رهينة التفكير الاستشراقي، وما زال موروثنا يُقرأ بعين غربية لا سورية، ولا مشرقية، كل هذا يدفع إلى التنبه العلمي، والحذر من هذه الفوضى الاصطلاحية، والمعرفية التي تزخر بها الكتب العربية، والتي كتبها باحثون عرب بفعل استشراقي، أو ترجموها عن لغات أخرى (نسخوا، ولصقوا).
أنهكت الحروب والفوضى المناطق السورية في الألف الأول ق.م، ومن ضمنها منطقة جبل حوران، حيث مرت عليها حروب ، وغزوات، ودمار، وخراب أحدثه الآشوريون ثم الفرس، بعد ذلك انتشر العرب الأنباط فوق أرض الجبل، وأعادوا الأمن، والأمان، والاستقرار إلى ربوعه بعد دخولهم جبل حوران سنة 88ق.م(1) إثر تغلبهم على السلوقيين اليونان، ومدوا نفوذهم السياسي على هضبة حوران البركانية بأكملها حتى مدينة دمشق في فترة من سني حكمهم(2)، وبالنسبة للوجود النبطي في الجبل فوجود الأفراد، والتجار الأنباط في الجبل يعود إلى القرن الثالث ق.م أي قبل وجودهم السياسي تقريباً بمئتي (200) سنة، وهذا ما أكدته النقوش الكتابية النبطية(3)، أضف لذلك أن الوجود اليوناني في الجبل كان ضعيفاً، أو متنازعاً عليه من قبل السلوقيين في الشمال والبطالمة في مصر، ولا توجد دلائل أثرية واضحة لهم باستثناء نقوش كتابية متناثرة باللغة اليونانية، لأن اليونانية في ذاك الزمن كانت لغة الثقافة في العهود الهلنستية منافسة اللغة الآرامية التي سادت الألف الأول ق.م، وكانت الهللينية اليونانية قليلة العمق في الجبل آنذاك مقارنة مع باقي المناطق السورية الأخرى، ولم تكن سوى لغة
____________________
- علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج3، دار العلم للملايين، ط1، بيروت،1969، ص 28-29.
(2) Kammerer. A: 1929, Petra et la Nabaten, Paris, 1929, P. 515. / Bounni. A: 1991, les Nabateens en Syria du Sud, le Djebel al-Arab, Paris, 1991, P.22.
(3) ستاركي، ج: الكتابات والنقوش النبطية، سورية الجنوبية، تعريب أحمد عبد الكريم، سالم العيسى، ميشيل العيسى، ج1، دار الأهالي، ط1، دمشق، 1985م، ص 252.
المظاهر (العظمة)، حيث استخدمت في الإهداء، والتكريس الديني.
كما تقدم قبل قليل أدى وجود الأنباط في الجبل إلى إعادة الأمن، والاستقرار إلى ربوعه، وهذا بدوره أدى إلى عودة النشاط البشري بكافة مجالاته، حيث التربة الصالحة للزراعة، والمياه، والملجأ الآمن، وبرزت أهمية المدن النبطية سوادا (السويداء)، وقنوات، وسيا (سيع)، وصرخد (صلخد) التي كانت المخزن المهم لبضائعهم، والحصن الدفاعي الممتاز، كما أن العرب الأنباط لم يكونوا بدواً يجهلون الحضارة كما حاول بعض المظليين دس افتراءاتهم سابقاً، بل كانوا من أهل الحضر والعمران، وكان لهم فكرهم العقائدي الديني التوحيدي، والوثني، وكانوا يعرفون الزراعة، وكيف يفيدون من مياه الأمطار بإقامة السدود، وخزانات المياه المغلقة، والمفتوحة، كيف لا وهم من عرب اليمن بناة العرم (سد مأرب)، وهناك ميزة في حوران جبلاً وسهلاً هي برك المياه المنتشرة في جغرافية المنطقة بأكملها تكاد لا تخلو مدينة أو قرية من بركتي مياه إن لم يكن ثلاث برك، وهذا لا نجده في باقي الجغرافية السورية الأخرى لأن الانباط استقروا في هضبة حوران البركانية، ونحن الآن نلحظ التطابق الكامل بين توضع المدن، والقرى، والبلدات الأثرية القديمة والحديثة منها في معظم أرجاء الجبل، فقد استفاد السكان في عصرنا الحالي من وجود العديد من الحجارة المقصوبة للأوابد الأثرية، وهذا يعكس مدى أهمية إعادة استعمال الحجارة القديمة في الأبنية الحديثة، من جهة أخرى وجود الينابيع في المرتفعات، والخزانات المنحوتة في الصخر، وبرك المياه التي تغذيها الاودية السيلية أعطى أهمية الاستمرار، والديمومة للأماكن المأهولة في الجبل، فالأمس كما هو اليوم ( أي القرن الأول ق.م، والنصف الأول من الالفية الميلادية الأولى )، فقد تركز العمران على المناطق الصخرية حيث يتعذر النماء والزراعة، وتُركت الأرض الجيدة ذات التربة الصالحة للزراعة مع القيام بأعمال التعزيل لها، ورفع الحصى والحجارة لزيادة مساحتها، وطبقاً للشكل الذي يشاهد فيه الجبل أمام أعيننا اليوم، فهو شبيه للجبل قديماً إبان عهود الأنباط، والقرون التي تلته بعد الاحتلال الروماني له من حيث توزع سكانه، وعمرانه، وهذه ظاهرة فريدة أدهشت الباحثين والمهتمين بتاريخ الجبل، لتميز مدنه وقراه بالحيوية والتجدد، مقارنةً مع حاضرات سورية الشمالية ذات المدن الميتة (المنسية)، طبعاً باستثناء المدن الكبرى حلب وحماه وغيرها.
مما تقدم ذكره يطلع علينا الآتون من الخلف، ليقولوا لنا “لم تزدهر منطقة جبل حوران بل وحوران بأكملها إلا عند مجيء الرومان”، ويصفوا على حد زعمهم مرحلة العهود النبطية بفترة “ما قبل الولايات”، علماً أنه قدمت لنا الكتابات والنقوش النبطية، واليونانية، واللاتينية، والصفائية المكتشفة تصوراً مقبولاً لتاريخ التطور، والتوطن في الجبل، كما أن وجود أسماء الأعلام في النقوش اليونانية واللاتينية، وعلى شواهد القبور في الجبل لا يُستند عليه أن هؤلاء كانوا من المحتلين الأوربيين إلا في بعضها، رغم أن اختلاط المحتل بالسكان المحليين الأصيلين أمر واقع وحتمي، فقد كانت أسماء الأعلام التي وردت في النقوش الكتابية، أو معظمها لسكان الجبل الأصيلين ممن انتسبوا للإدارة والجيش الروماني. ولا نغفل أنه بنفس الحقبة الزمنية آنذاك كان القطاع الشمالي لجبل حوران، والشمالي الشرقي (منطقة تلول الصفا) مركزاً لمجموعات عربية بدوية صحراوية امتهنت الرعي عرفوا بالصفائيين، ومن جهة أخرى فإن تسمية الأعلام الصفائية في الكتابات اليونانية تبين أن قسماً كبيراً من هؤلاء البدو الرحل تحضروا في الجبل(1) إبان الحكم الروماني له، واندمجوا مع السكان الحضريين.
لم يتوقف جولان القبائل العربية آنذاك تقريباً في مطلع القرن الثالث للميلاد، وحسب المعطيات التاريخية، والإخباريين العرب أن قبائل عربية عرفت بتنوخ انتشرت في أرض بلاد الشام غرب نهر الفرات، وحسب حمزة الأصفهاني هم قبائل طيء، وتميم، ولخم، وأسد، وصعاليك القبائل العربية الأخرى(2)، وذُكر أن أشهر ملوكهم كان جذيمة الأبرش (الأبرص) التنوخي القضاعي الأزدي، على أساس أن قبيلة تنوخ كانت مزيجاً من جموع قضاعة والأزد اليمنيتين، حيث التقت قضاعة، والأزد، وإياد، وغيرهم من القبائل العربية في منطقة هَجر في شبه الجزيرة العربية، واتخذوا اسم تنوخ بمعنى المحطة أو المنزل، أو الموضع الذي تناخ فيه الإبل(3)، لكن الطبري يرى أنها بمعنى التوازر والتناصر(4)، وقد ذكرت الكتب العربية أنه _________________
(1) فيلنوف، فرانسوا: الاقتصاد الريفي في حوران القديمة (من القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن السابع بعد الميلاد)، سورية الجنوبية، تعريب أحمد عبد الكريم، سالم العيسى، ميشيل العيسى، ج1، دار الأهالي، ط1، دمشق، 1985م، ص 167. /
.Sartre. M: 1982, tribus et clans dans le Hauran antique, Syria, 59, P.82.
(2) الأصفهاني (حمزة بن الحسن): تاريخ سني ملوك الأرض والانبياء، دار مكتبة الحياة، بيروت، ص 86. / دلو، برهان: جزيرة العرب قبل الإسلام، ج2، الفارابي، 1989م، ص 326.
(3) ابن منظور (أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم): لسان العرب، دار صادر، بيروت، مادة نوخ.
(4) الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير): تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج1، دار المعارف بمصر، ط4، ص 610.
عندما بدأت قبائل تنوخ تتوارد إلى الشام، وبادية العراق كانت أعداد من قبائل تميم، ولخم، والأزد(1) قد سبقتهم إليها، وعرفوا بالعباد في الحيرة، لأنهم اعتنقوا المسيحية على مذهب النساطرة(2)، وذُكر أن جذيمة الأبرش هو أول ملوك تنوخ، فقد ورد ذكره في نقش فهر بن سلي من خربة أم الجمال* النبطية نحو سنة 270م(3). وبعد مقتل جذيمة الأبرش على يد ماريا الزباء الغسانية ثأراً لأبيها(4)، تولى زعامة تنوخ ابن أخته عمرو بن عدي من لخم، ويُعد تاريخياً المؤسس الحقيقي لإمارة الحيرة في جنوب العراق، ومُلك المناذرة، حيث اتخذ من الحيرة عاصمة لملكه، وانتقم من ماريا الغسانية(5)، وقد خلفه في الحكم ابنه امرئ القيس بن عمرو صاحب نقش النمارة الشهير(6)، والذي كان محارباً شجاعاً استطاع أن يبسط سلطانه على قبائل العرب المجاورة أسد، ونزار، ومذحج، ومعد، وربيعة، ومضر(7)، وسائر بادية العراق، والشام، والحجاز، والجزيرة العربية(8) يومئذ، ونقش النمارة الذي عثر عليه الفرنسي رينيه دوسو في موقع النمارة في تلول الصفا شمال شرق جبل حوران، هو أشهر نقش كتابي عربي دون بقلم نبطي في لغة عربية، يتألف من خمسة سطور يؤكد وجود قبر امرئ القيس في شرق هضبة حوران سنة 328م، ويؤكد كلا النقشين المذكورين امتداد نفوذ ملوك الحيرة التنوخيين، ووجودهم في جبل حوران آنذاك.
حصلت في ذاك الزمن أي في القرون الميلادية الأولى أحداث تاريخية اجتماعية كثيرة، والحديث عنها يطول، لكن أوجزها باختصار، وقد فصلتها المصادر الكتابية السريانية، والآباء
_________________
(1) علي، جواد: 1969م، ص 170.
(2) المرجع نفسه، ص 171-172.
*تقع خربة أم الجمال الأثرية حالياً في شمال الأردن بالقرب من الحدود السورية – الأردنية، وكانت مفك ترحال للقوافل التجارية في العهود النبطية.
(3) هبو، أحمد رحيم: تاريخ العرب قبل الإسلام، جامعة حلب،1979 – 1980م، ص 118. / PAAES, IV, A, n 41.
(4) ابن الأثير (عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم): الكامل في التاريخ، ج1، دار صادر، بيروت، 1979، ص 345 – 346. / علي، جواد: 1969م، ص 190.
(5) ابن الأثير: 1979م، ص 346. / علي، جواد: 1969م، ص186 – 187.
(6) العش، محمد أبو الفرج: نشأة الخط العربي وتطوره، الحوليات الأثرية العربية السورية، مجلد 23، المديرية العامة للآثار والمتاحف، مطابع وزارة الثقافة، دمشق1973م، ص 59.
(7) علي، جواد: 1969م، ص 190.
(8) عاقل، نبيه: تاريخ العرب القديم والعصر الجاهلي، مطبعة جامعة دمشق، ط4، دمشق، 1991م، ص 168.
الكنسيين، فقد دخلت المسيحية مبكراً إلى مناطق حوران بما فيها الجبل، إثر مجاورة حوران لفلسطين مهد السيد المسيح والمسيحية، وتوارد جماعات مسيحية كثيرة إلى الجبل، هرباً من اضطهاد الرومان، وولاتهم اليهود لهم، واستقر الكثير منهم في الجبل في العهود النبطية قبل تقويض الرومان لمملكة الأنباط، وإحداثهم الولاية العربية الرومانية(1)، ورغم أن المسيحية واجهت العديد من الصعوبات، والمنافسة لها من قبل معتنقي الديانات الوثنية، إلا أنها كانت أكثر التعاليم الدينية تأثيراً على الناس، لأنها دعت إلى إقامة مملكة الخير، والعدالة، ومحاربة القهر، والظلم، وقد اتبعها قسم كبير من سكان الجبل، كما انتشرت بين القبائل البدوية(2)، وقد أمضى الرسول بولس Pauls فترات طويلة متنقلاً بين مناطق حوران ودمشق مبشراً بالدين الجديد، حيث يقول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثيس Corinthias سنة 40م (الإصحاح 11 – آية 32 – 33) “في دمشق والي الحارث الملك الذي يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكني، فتدليت من طاقة في زنبيل من السور، ونجوت من يديه”، ثم يقول في رسالته إلى أهل غلاطية (الإصحاح 1 – آية 17) “ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية، ثم رجعت أيضاً إلى دمشق”*. إذاً فقد نمت، وانتشرت المسيحية في الجبل إبان العهود النبطية، واشتهر من الآباء المسيحيين الأب جاك Jak، والأب بارتلمي Partealemi، ونشأت جماعة كبيرة من المؤمنين بالمسيحية في حوران بالجبل والسهل معاً، كان يمثلها الشماس* الإنجيلي النبطي تيمون في مدينة بصرى، حيث أشرف على نشر التعاليم المسيحية في المنطقة، وأصبح أول أسقف على مدينة بصرى آنذاك(3). لكن عانى المؤمنون بالمسيحية في الجبل، وعموم مناطق حوران خلال الحكم الروماني للمنطقة من سياسة بعض
_______________
(1) Bowersock. G.W: 1983, Roman Arabia, Cambridge Mass, Londres, 1983, P. 1
(2) الطوالبة، ضياء الدين: موقع أم القطين في البادية الشمالية الشرقية، حولية دائرة الآثار العامة الأردنية، 47، عمان، 2003م، ص 29. / Bounni: 1991, P. 21.
*يقول علماء العهد الجديد أن الذي ذهب إليه بولس الرسول كان الملك النبطي الحارث الرابع في مدينة البتراء، حيث أمنه ويسر له مهامه التبشيرية الدينية.
*الشماس رتبة دينية لدى المسيحية، وهو خادم الكنيسة يتم تعيينه في مكتب الكنيسة، وقد ورد ذكر وظيفة الشماس لأول مرة في سفر أعمال الرسل (أعمال الرسل 6).
(3) أثناسيو، هاجي متري: موسوعة بطريركية أنطاكية التاريخية والأثرية، مجلد5، ط1، 1997م، ص 377 – 378. /
المقداد، خليل: حوران عبر التاريخ، دار حوران للنشر، ط1، دمشق، 1996م، ص 82.
الأباطرة الرومان العدائية، وملاحقة الدولة لهم، والتنكيل بهم، بعد إحداث الولاية العربية الرومانية، لهذا فقد تكتم الكثيرون، ومارسوا طقوسهم الدينية بسرية في بيوتهم، واستشهد عدد كبير من المؤمنين بالمسيحية، رغم ذلك فقد تزايد نشاط المسيحية بشكل كبير في نهاية القرن الثاني، وبداية القرن الثالث الميلاديين، وكثرت الجماعات المسيحية، وكانت تابعة في الجبل لأسقفية مدينة بصرى عاصمة الولاية العربية الرومانية، والتي شغل منصب الأسقف فيها بيريللي Berylle سنة 210م، حيث عرف بشجاعته، وجرأته، ونشره الخير والمحبة بين كل الناس، ونبذه العداء(1)، وقد لاقت التعاليم المسيحية كل دعم وعون في عهد الإمبراطور فيليب العربي، حيث نعم المؤمنون بها بالسلم، والأمان، والانتشار الواسع، كما اختلفت آراء المؤرخين واللاهوتيين حول الفكر الديني للإمبراطور فيليب، منهم من ذكر أنه اعتنق المسيحية هو وزوجته أوتاسيلا سيفيرا بعد مراسلات بينه وبين الأب أوريجين *Origen(2)، الذي لقي كل الدعم من ابن جبل حوران الإمبراطور فيليب خلال جولته الثالثة في الولاية العربية، لتفقد أحوال السكان المسيحيين المقيمين فيها ، كما تسامح الإمبراطور فيليب مع المسيحيين، وأصدر في سنة 248م مرسوماً تضمن السماح بعودة المسيحيين المبعدين، والمنفيين في عهد الأباطرة السابقين إلى ديارهم(3)، وبانتهاء عهد فيليب عانى المسيحيون من جديد من الاضطهاد، والملاحقة. وقد ظهرت في تلك الحقبة الصراعات الفكرية والمذهبية في القرنين الأول والثاني الميلاديين لدى الجماعات المسيحية، والتي دعيت فيما بعد بالهرطقات من قبل الكنيسة المسيحية، فقد ورد لدى هاجي متري أثناسيوAthanasius بأن “الولاية العربية بلاد خصبة بالفرق المنحرفة”(4)، وكما هو معلوم يقع جبل حوران ضمن منطقة الولاية العربية الرومانية، فقد ظهرت في ذاك الزمن في الولاية العربية أفكار ومذاهب عديدة لدى الذين آمنوا بالتعاليم
_________________
(1)Sartre: 2007, le cadre historque et les inscriptions, Bosra, aux ports de L’Arabie, IFPO,
الدبس، يوسف: تاريخ سورية الديني والدنيوي، مجلد3، ج2، ص 7/ 2007, Beyrouth, P. 26.
*كان الأب أوريجين (185 – 254م) من أوائل الكنيسة المسيحية ترأس مدرسة لتعليم الدين المسيحي في الإسكندرية، وأسس مدرسة أخرى في قيسارية، وله كتابات هامة، وهو يمثل قمة الفكر الإنساني في تعاليم مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التي أنارت العالم المسيحي بأكمله في ذاك الزمان، حتى لقب في التاريخ بعقل العالم المسيحي.
(2) الدبس، مجلد3، ج2، ص 8. / أثناسيو: 1997م، ص 372.
(3) أثناسيو: 1997م، ص 372.
(4) المرجع نفسه، ص 372.
المسيحية، مثل الغنوسطية*، التي تعتقد بالمعرفة دون الإيمان أي المعرفة السامية الغنوسيس Gnossis(1)، والغنوسيس هي إحدى الفرق المسيحية الأولى التي عدت أن للإنجيل معنى خفياً غير المعنى الظاهري(2)، وكان رائد هذا الفكر والمعتقد الديني في الولاية العربية منعم العربي(3)، كذلك ظهرت فئة مسيحية دُعيت باسم جماعة منكرو عذرية السيدة مريم العذراء، وكانت سبباً في ظهور الجمعية اليهودية التي ادعت ذلك، وحاولت القضاء على المسيحية(4)، أيضاً ظهرت جماعة مسيحية تبنت فكرة خلود النفس التي كانت سبباً في استدعاء الأب أوريجين إلى الولاية العربية للمرة الثالثة نحو سني 240 – 249م(5)، الذي كان من أبرز الآباء المسيحيين يومذاك لمناقشة هذا الفكر، أو البدعة كما أطلق عليه فيما بعد، هذه الجماعات المسيحية في الولاية العربية، والتي تبنت وآمنت بالمعتقدات، والأفكار اللاهوتية التي تقدم ذكرها ربما قضي عليها، أو اندثرت، لكنني أعتقد أنها ربما تكتمت على أفكارها، ومارستها سراً تجنباً للاضطهاد والتعذيب بعد انتصار الفكر الديني المسيحي الباولوني Paulonism، الذي صاغه بولس الرسول(6) أحد تلامذة السيد المسيح في نهاية الصراع العقائدي بين السكان المؤمنين بالمسيحية، وذلك قبل أن يظهر خلاف آخر بين السكان المؤمنين بالمسيحية، وأدى إلى انقسامهم إلى قسمين الأول منهما عرفوا بأتباع المذهب النسطوري* نسبة إلى الكاهن
__________________
*كانت الفكرة الرئيسة في الغنوسطية التي تعتقد بالمعرفة دون الإيمان هي الغنوسيس، أي المعرفة السامية، والاستنارة الروحية التي تتاح للمختارين بحيث يمكن إنقاذ الروح من حال عبوديتها، والمرويات المسيحية تجعل سيمون الساحر (أعمال الرسل 8:9 وما بعدها) مؤسس الحركة الغنوسطية أنظر: حتي، فيليب: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، ترجمة جورج حداد، عبد الكريم رافق، مراجعة جبرائيل جبور، ج1، دار الثقافة، بيروت، 1958م، ص 370.
(1) حتي: 1958م، ص 370.
(2) شيفمان: المجتمع السوري القديم، ترجمة حسان إسحق، ط1، دمشق، 1987م، ص 22.
(3) أثناسيو: 1997م، ص 372.
(4) خليل المقداد: 1996م، ص 84
(5) أثناسيو: 1997م، ص 372.
(6) شيفمان: 1987م، ص 227.
*النسطورية هي مذهب مسيحي يقول بأن يسوع المسيح مكون من جوهرين، يُعبر عنهما بالطبيعتين، وهما جوهر إلهي، وجوهر إنساني أو بشري، انتشر هذا المذهب بشكل رئيسي بين مسيحي العراق، وبلاد فارس، والهند، والصين، ومنغوليا، وهو المذهب السائد بين مسيحي شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وكان إقليم البحرين مركزهم الرئيسي، وهو المذهب الذي تتبناه كل من كنيستي المشرق القديم، والآشورية الشرقية حتى يومنا هذا.
نسطوريوس Nestorios بطريرك القسطنطينية، و الثاني المذهب المونوفيزيقي اليعقوبي*.
بُنيت في تلك السنوات والقرون الكنائس، وانتشرت في هضبة حوران بأكملها، وتحولت بعض المعابد الوثنية إلى كنائس، وهذا تأكد منذ القرن الأول حتى القرن الرابع الميلادي، من
خلال الأوابد الأثرية المعمارية، كما في مدينة قنوات، وكانت الكنائس تبنى بأيدي المسيحيين أنفسهم، مثل كنيسة بلدة لبين المؤرخة بسنة 233م(1)، وأصبحت بعض المدن في الجبل أسقفية، كمدينتي قنوات، والسويداء، اللتين غدتا مركزين مهمين للحج المسيحي في سورية الجنوبية(2)، واستعملت اللغة الآرامية، واليونانية في طقوس العبادة، والتراتيل الدينية المسيحية(3).
توالى جولان القبائل العربية من العربية الجنوبية حتى وصل الغساسنة إلى الشام، ونزلوا في الأردن، وحوران، والجولان، وغوطة دمشق(4)، وهم بالأصل حسب اجتماع المؤرخين العرب عرب من أزد اليمن خرجوا بعد تصدع سد مأرب أو بعده غير معروف بقيادة زعيمهم عمرو بن عامر مزيقياء، وذكرت المصادر تفرقهم في البلاد، فاستقرت قبيلة خزاعة في مر الظهران، والأوس والخزرج في يثرب، وقسم استقر في السراة عرفوا بأزد السراة، وآخرون استقروا في عمان عرفوا بأزد عمان(5)، وآل جفنة أقاموا مدة من الزمن في جنوب الحجاز، وفي يثرب، وسموا بالغساسنة نسبة إلى نبع ماء يقال له غسان في تهامة، ويقع بين زبيد وزُقع ( وادي الأشعريين في اليمن)(6)، وعندما نزل بنو غسان في حوران عُرفوا بآل _______________
*المذهب المونوفيزيقي هو عقيدة مسيحية تقول بأن ليسوع المسيح طبيعة واحدة إلهية، وأن طبيعته البشرية اتحدت بهذه الطبيعة، وقد أُطلق على أتباع هذا المذهب في القرن الثامن الميلادي تسمية اليعااقبة نسبة إلى القديس السرياني المكرم في الكنائس -الأرثوذوكسية المشرقية يعقوب بن ثيوفيلوس، الذي لقب بيعقوب البرادعي Jacob Bar Adda، رغم أنه لم يؤسس المذهب المونوفيزيقي، إنما هو أحد المدافعين عنه، وقد انتشر هذا المذهب بين القبائل العربية مثل إياد، وربيعة، ومضر.
(1) أبو عساف، علي: الآثار في جبل حوران، مطبعة ألف باء – الأديب، ط1، دمشق، 1997م، ص 115.
(2) فوت، بولين دونسيل: السويداء وقنوات مركزان هامان للحج المسيحي في سورية الجنوبية، ترجمة حسن حاطوم، الحوليات الأثرية العربية السورية، مجلد 41، المديرية العامة للآثار والمتاحف، مطابع وزارة الثقافة، دمشق، 1997م، ص 185.
(3) حتي: 1958م، ص 371.
(4) المسعودي (أبو الحسن علي بن الحسين بن علي): مروج الذهب، ج2، دار الأندلس، ط1، بيروت، 1984م، ص 83.
(5) ابن كثير (إسماعيل أبو الفدا): البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، ج2، دار إحياء التراث العربي، 1988م، ص 196.
(6) الهمذاني (أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب): صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد بن علي الأكواع الحوالي، دار اليمامة، الرياض، ص 122. / زيدان، جرجي: العرب قبل الإسلام، ج1، مطبعة الهلال، مصر، 1908م، ص 184.
جفنة لانتسابهم إلى جفنة بن عمرو مزيقيا بن عامر بن الأزد جدهم الأعلى، وأول ملوكهم(1)، وكانت زعامة حوران في ذاك الزمن لقوم من العرب يعرفون بالضجاعمة من بني سليح بن حلوان من قضاعة، وكانوا عمالاً للروم البيزنطيين، فعاش أبناء عمومتهم الغساسنة بجوارهم، ودفعوا الأتاوة، ثم قامت الصراعات بين الطرفين فانتصر الغساسنة، واندحرت سليح، وآلت الزعامة لهم(2)، وجرى ذلك دونما أي تدخل من السلطة الرومانية البيزنطية المهيمنة على بلاد الشام، لأن شغلهم الشاغل كانت المعارك الدائرة بينهم وبين الفرس على مناطق النفوذ، وقد فطن البيزنطيون إلى أهمية كسب مودة الغساسنة، وإغداق الهبات، والالقاب عليهم، وعلى قادتهم، وعقد تحالف عسكري معهم(3) لاستعمالهم في قتال الفرس، وأبناء عمومتهم الموالين والمتحالفين مع الفرس في الحيرة (أمراء الحيرة). وبعد استقرار الغساسنة وتملكهم في مناطق غوطة دمشق، وهضبة حوران بأكملها (جبل العرب – سهل حوران – الجولان) ذات التربة الخصبة، والمياه الوفيرة، والمزدهرة اقتصادياً منذ زمن أسلافهم، حيث استفادوا من ذلك، ووظفوا خبراتهم الزراعية القديمة التي حملوها معهم من شبه جزيرة العرب، فازدهرت الزراعة لديهم، كما استفادوا من النشاط التجاري القوي الذي أرسى قواعده التجار الأنباط في مناطق حوران قبل استيلاء الرومان على مملكتهم بين سني 106- 111م، وقوي اقتصادهم، فتطورت القوى المنتجة، وظهرت الملكية الخاصة، وبهذا نشأت مملكة الغساسنة، حيث اتخذوا من مدينة بصرى حاضرة لهم، ومن منطقة الجابية بجوار بلدة نوى في حوران مقراً لملوكهم، والتي اشتهرت بجابية الملوك أو جابية الجولان(4)، وقد شاد الغساسنة القصور، والبيوت، والقناطر، والأبراج، والكنائس، والأديرة، وبرك المياه، تدل عليها بعض الآثار الباقية في مدينة بصرى، ومناطق حوران، وجبل العرب/حوران، وجهات الأردن، وقد وصلنا الكثير عن حياة الترف، والرخاء التي عاشها الأمراء الغساسنة المتأخرين، وقصورهم من خلال الأدب العربي، كشعر النابغة الذبياني، وحسان بن ثابت.
________________
(1) الأصفهاني، حمزة، ص89 – 90.
(2) المصدر نفسه، ص89 – 90. / المسعودي: 1984م، ج2، ص82 – 83.
(3) ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج2، مؤسسة الأعلمي، ص 279.
(4) الحموي، ياقوت: معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1979م، مادة جابية. /علي، جواد: 1969م، ج3، ص 440.
تتالت الأحداث والسنوات، ودب الضعف في أوصال الدولة الرومانية البيزنطية، وحلفائها العرب الغساسنة، حيث تصدع أمرهم، وتشتتوا، وعادت الفوضى إلى البلاد، وساد النهب والسلب، وانقسم الأمراء الغساسنة على أنفسهم، واحتدم التنافس للحصول على الرئاسة والسيادة(1)، وزاد غزو الفرس لبلاد الشام مستغلين الأوضاع المضطربة لمهاجمة سورية، واحتلالها سنة 613م(2)، وعاثوا فساداً، وخراباً في المناطق السورية، ومن ضمنها منطقة جبل حوران، وهذا أدى إلى معاناة السكان من الفوضى، واضطراب الأمن، والويلات حتى سنة 629م استعاد فيها الروم البيزنطيون هيبتهم مع حلفائهم الغساسنة، وأصبح جبلة بن الأيهم الغساني حاكماً على حوران، وقد حارب الفرس إلى جانب الإمبراطور البيزنطي هرقل Hercules، وطردهم من بلاد الشام(3)، وهو آخر ملوك غسان، حيث زال حكمه، وملك الروم البيزنطيين في بلاد الشام في آن واحد في سنة 636م إثر معركة اليرموك، بعد أن وصلت الموجة العربية الإسلامية، والقبائل القادمة من شبه الجزيرة العربية إلى أرض الشام(4)، حيث خضع الجبل للحكم العربي الإسلامي. وبعد ذلك قدم الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب من المدينة إلى الشام يصحبه نخبة من كبار الصحابة ليشرف على تنظيم البلاد، حيث ولى يزيد بن أبي سفيان على دمشق، وعمر بن العاص على فلسطين، وشرحبيل بن حسنة على الأردن، وعبادة بن الصامت على حمص(5)، كذلك ولى الأمير مالك بن الحارث بن هشام المخزومي القرشي الملقب بشهاب* إمارة حوران (الجبل والسهل معا)، وأوكل إليه رعاية القوافل التجارية، والحج(6)، واستمر آل شهاب بحكم الجبل إبان الدولة الأموية، والعباسية متخذين من مدينة شهبا مقراً لهم.
______________
(1) عاقل: 1991م، ص 153.
(2) زيدان: 1908م، ص 194.
(3) عاقل: 1991م، ص 154.
(4) المسعودي: 1984م، ج2، ص 84. / علي، جواد: 1969م، ج3، ص 441. / عاقل: 1991م، ص 154.
(5) ابن العديم (الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جراده): بغية الطلب من تاريخ حلب، تحقيق سهيل زكار، ص 585. / البلاذري (أحمد بن يحيى بن جابر بن داوود): أنساب الأشراف، تحقيق محمد باقر المحمودي، ج3، دار التعارف، بيروت، ص 148.
*لقب مالك بن الحارث بشهاب تبركاً بجده لأمه، وهي من ذرية شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة القرشي، لكن ذكر الكابتن بورون في كتابه الدروز ان لقب مالك بن الحارث قد اتخذه من مدينة شهبا، إذ أنه اتخذها موطناً له ولقبيلته نحو خمسة قرون أنظر: مجموعة من المؤلفين، موسوعة سويداء سورية: منشورات دار علاء الدين، ط1، دمشق، 1995م، ص 130.
(6) موسوعة سويداء سورية: 1995م، ص 131.
وحسب المعطيات التاريخية أنه منذ توافد المجموعات البشرية في العهود الإسلامية إلى جبل حوران عاش الجبل عدم استقرار، وتراجع في أعداد التجمعات السكانية المستقرة، ومن ضمن الآراء حول أسباب ذلك اتهام الموجة العربية الجديدة بتخريب مزارع الكرمة، والحقول، والقرى، وغيرها من
منشآت اقتصادية، كمعاصر العنب والنبيذ لوجود اختلاف في العقائد الفكرية الدينية بين السكان الأصيلين في الجبل، وأبناء عمومتهم القادمين الجدد الذين استوطنوا لاحقاً في بعض حواضره، مما دفع بالسكان في بعض المناطق إلى ترك ديارهم، والانتقال بالتدريج من الجبل إلى مناطق أخرى في بلاد الشام، حتى أقفرت معظم الحواضر من سكانها، حيث داهمتها البداوة بعد ذلك بخاصة في الأطراف الشرقية من الجبل، لكن بعض الباحثين يرفضون هذه الآراء، ويرجعون تخريب المنطقة إلى الغزو الفارسي ما بين سني 608 – 629م(1)، لكنني أُرجح فقر الجبل بالمكون البشري، وتراجع أعداد السكان في العهود الإسلامية المختلفة إلى مجموعة عوامل منها العوامل البشرية التي ذكرت قبل قليل، إضافة لعوامل بيئية، ومناخية من جفاف، وقحط، وقلة المطر في بعض الفترات، وتفشي الأوبئة من حين إلى آخر.
بقي الجبل جزءاً من الدولة العربية الإسلامية الأموية تحت حكم آل شهاب حتى سنة 1172 – 1173م، حيث انتقل الأمير منقذ الشهابي مع أفراد عشيرته من جبل حوران إلى وادي التيم (حاصبيا وراشيا)(2). وإبان العهود الأموية نشب الصراع الشديد بين القبائل العربية القيسية واليمنية، وكان طرفا النزاع قبيلتي كلب اليمنية، وكلاب القيسية، وكما هو معروف أن انحدر العرب من جدين عظيمين هما قحطان* الذي عاش في شبه الجزيرة العربية الجنوبية ( اليمن )، وعدنان الذي عاش في شمالها، وكل من اليمنية والقيسية تحاربا في معركة مرج راهط قرب دمشق
______________
(1) عبد السلام، عادل: الطبيعة الجغرافية لمحافظة السويداء، الحوليات الأثرية العربية السورية، مجلد 41، المديرية العامة للآثار والمتاحف، مطابع وزارة الثقافة، دمشق، 1997م، ص 41.
(2) موسوعة سويداء سورية: 1995م، ص 132.
*قحطان هو ابن عابر، وهو هود، وقد تفرع عنه سبأ بن يشجب بن يعرب، وحمير، وكهلان، ومنهم بطون كثيرة خرجت من اليمن، وانتشرت في بلاد العرب، وأشهر بطون كهلان هم الأزد أولاد الأزد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان، وقد تفرقوا بعد خراب سد مأرب في اليمن، ومنهم الأوس والخزرج الذين سكنوا المدينة (يثرب)، ومن الأزد الغساسنة الذين استوطنوا بلاد الشام، ومن كهلان قبيلة مذجح، ومن مذجح قبيلة عنس، وهي قبيلة الصحابي عمار بن ياسر أنظر: زكريا، أحمد وصفي: عشائر الشام، ج1، دار الفكر، ط2، دمشق، 1983م، ص 73.
سنة 683م(1)، وكانت القيسية من بني كلاب بن مضر، وهم بطن من قبيلة ربيعة من العدنانيين، وبحسب أبو العباس القلقشندي أن بني كلب هم بنو عمرو بن لؤي بن رهم بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث من قضاعة من حمير القحطانية(2)، وكانت عشيرة بحدل بطن من بني كلب بن تغلاب بن حلوان بن عمران بن الحافي من قضاعة، وكانت رئاسة بني كلب في الإسلام لبني بحدل(3)، وقد ورث بنو كلب* المركز التجاري الذي كان سابقاً لأبناء عمومتهم الغساسنة، وكان لهم دور في ازدهار الزراعة، والتجارة بعد انتشارهم في بلاد الشام بخاصة في حوران ودمشق، ووصل نفوذهم إلى حلب. وقد تقرب منهم أول خليفة أموي معاوية بن أبي سفيان، فتزوج ميسون بنت بحدل زعيم بني كلب، فولدت له يزيد(4)، فأصبح بنو كلب أخوال ولي العهد، والحماة الطبيعيين له، فقويت شوكتهم، وزاد نفوذهم مما أثار حقد قبيلة كلاب القيسية عليهم.
استمرت الأحداث وتتالت السنوات حتى كان عصر الخلافة العباسية حيث انطلقت المدارس الفكرية، والعقائد الفلسفية، كالمعتزلة، والاسماعيلية، والصوفية، وفيه انتشرت الفلسفة اليونانية، والحكمة الهندية، وكتبت رسائل إخوان الصفا، وجميع هذه العقائد والعلوم أثرت بنسب مختلفة متفاوتة على الفكر التوحيدي الذي ظهر في مصر، وانتشر ونما وازدهر في بلاد الشام. وكما هو معروف أن عقيدة التوحيد الدينية التي أُطلق على أتباعها لقب “الدروز”* في بلاد الشام _____________
(1) زيتون، عادل: تاريخ العرب والإسلام حتى نهاية العصر الأموي، جامعة دمشق، دمشق، 2011م، ص 149 –150.
(2) القلقشندي (أبو العباس): نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، تحقيق إبراهيم الأنباري، ص400 – 408.
(3) بيطار، أمينة: موقف أمراء العرب بالشام والعراق من الفاطميين حتى أواخر القرن الخامس الهجري، دار دمشق للطباعة والنشر، ط1، دمشق، 1980م، ص 143.
*كان بنو كلب من بني قضاعة، وهم مؤلفون من قبائل شتى بينها بهراء، وتنوخ، والقسم الأعظم من بني كلب وهم من حلف تنوخ اعتنقوا المسيحية، لأنهم أقاموا في مجتمع مسيحي في الشام، وفيما بعد أسلم معظم بني كلب عند مجيء خالد بن الوليد إلى الشام، وانضموا إليه وقاتلوا في صفوفه أنظر: كرد علي، محمد: خطط الشام، ج 1-2، دار الفكر، دمشق، 1983م، ص 67.
(4) ابن عساكر (أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله): تاريخ دمشق، تحقيق محب الدين أبي سعيد عمر بن غرافة العمري، ج70، دار الفكر، دمشق، ص 133.
*نسبة إلى الداعي الفارسي محمد بن اسماعيل الدرزي (نشتكين)، الذي أقر بإمامة حمزة بن علي بن أحمد الزوزني الذي نص عليها الحاكم بأمر الله الفاطمي، ، ويقال أن نشتكين الدرزي بعد انتهاء مهمته بنشر الدعوة في جبل السماق، توجه إلى وادي التيم الذي سكنته جماعات من القرامطة، فنشر دعوة التوحيد بينهم، لذلك أطلق على أتباعه الدروز في وادي التيم، وعمت التسمية فيما بعد جموع الموحدين في بلاد الشام، لكن نشتكين وقتذاك انقلب على الإمام حمزة وحاول ادعاء الإمامة لنفسه، وانحرف عن مسار الدعوة التوحيدية ، والموحدين يتبرأون منه ويلعنونه.
نشأت في عهد الخليفة الفاطمي أبو علي المنصور الحاكم بأمر الله (996 – 1020م) في مصر سنة 1017م، والدعوة التوحيدية انطلقت في بلاد الشام في بعض مناطق غوطة دمشق، ووادي التيم*، وجبل السماق*، وكان في بلاد الشام دول وقبائل عديدة تتصارع على النفوذ السياسي، والسيطرة الاقتصادية على مرافق الحياة، بسبب اضطراب الحياة السياسية لأسباب عديدة في مقدمتها ضعف الخلفاء، والفساد المستشري في الدولة، وسيطرة الفرسن، والترك، والقهرمانات* على الخلفاء، فأصبح منصب الخلافة رهنا بتسلط الغرباء على خلفاء لاهم لهم إلا اللهو والمجون.
وفي خضم هذه الأحداث كانت بلاد الشام مقسمة داخلياً إلى ثلاث مناطق كل منطقة تتبع حكم عائلة عربية، فالمنطقة من مدينة الرملة في شمال فلسطين لبني الجراح، ثم دمشق وضواحيها وحوران ومن ضمنها الجبل لبني كلب، ومن حلب إلى نهر الفرات للمرداسيين*. وكما أوجزت قبل قليل كانت انطلاقة عقيدة التوحيد في بعض قرى دمشق، ووادي التيم، وجبل السماق في شمال بلاد الشام حيث اعتنقها مزيج بشري من قبائل العرب، كعدد غير قليل من جموع بني كلب، وبعض الأعاجم من الفرس، والكرد، والترك، وبقايا القرامطة* الذين بقوا في الشام بعد
________________
*نسبة إلى تيم الله بن عكاية بن علي بن بكر بن وائل، بطن من قبيلة ربيعة اعتنقوا الفكر الإسماعيلي، ثم انضموا إلى القرامطة، ونزلوا في سواد الكوفة في العراق، وبعدها أتوا إلى أرض الشام، وسكنوا في الوادي الذي عرف باسمهم وادي التيم. أنظر: زكار، سهيل: الجامع في أخبار القرامطة، دار حسان للنشر، ص 329 – 350.
*يقع جبل السماق في ريف مدينة إدلب الشمالي، ويعرف بالجبل الأعلى لوعورته، وصعوبة التنقل فيه قديماً.
*القهرمانة هي رئيسة الجواري، والمسؤولة عن تدبير أمور الحرملك.
*قامت الإمارة المرداسية في حلب ونواحيها، وأول من تولى الإمارة فيها صالح بن نصر بن مرداس الكلابي سنة 1024م، وقد قام صالح بن مرداس بمساعدة والي دمشق عبد الرحيم بن الياس باضطهاد معتنقي عقيدة التوحيد الدروز في ضواحي دمشق، وإرسالهم جيشاً إلى وادي التيم للقضاء على الدعوة التوحيدية، لكن صالح بن مرداس قُتل في معركة الأقحوانة بعد سنوات قليلة من تأسيس الإمارة المرداسية، ثم تولى ابنه نصر بن صالح الإمارة أنظر: ابن القلانسي (أبي غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي): تاريخ دمشق، تحقيق سهيل زكار، دار حسان للطباعة والنشر، ط1، دمشق، 1983م، ص 119. وانتهت إمارة المرداسيين سنة 1079م عندما احتل مسلم العقيلي أمير الموصل حلب أنظر: بيطار: 1980م، ص 291.
*يقول معظم المؤرخين أن الحركة القرمطية نشأت في سواد الكوفة في العراق، وتسميتها نسبة إلى حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط، تمكنوا من إقامة دويلة لهم في البحرين، وهي حركة ثورية اشتراكية دينية بدأت من أجل تحرير الإنسان من القهر والظلم والفقر، وعدت الإنسان العامل الأول، والأساسي في المجتمع، وقد انضم إلى الحركة القرمطية علماء ومفكرون ساعدوا على تنظيمها، وإدارتها، وانتشارها، وكانت لهم حروب عديدة لنشر أفكارهم، ومعتقداتهم جرت في الإحساء، والعراق، واليمن، وبلاد الشام، وكانت لهم فلسفة تتمثل بفكرة تأليه العقل، أوعقلنة الله، فهم يقولون بالعقل الأعلى الذي هو الله، أو الحكمة العليا، وقد ألغوا الطقوس، والشعائر الدينية الإسلامية الظاهرية كلياً، وهاجموا مكة. أنظر: مروة، حسين: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج2، ص 21.
\
خسارتهم في معركة الرملة في فلسطين سنة 977م أمام جيش الخليفة الفاطمي العزيز بالله (975- 996م)، وعودتهم النهائية إلى الإحساء(1)، وقد أطلق على هذا المزيج البشري اسم غُلاة الإسماعيلية، وذلك بسبب تحالفهم مع بعضهم البعض، واتهامهم بالكفر لإلغائهم الفروض الإسلامية، ولكره الناس للقرامطة بسبب حروبهم الدامية في بلاد الشام، وهجومهم على مدينة مكة. وقد تعرض المؤمنون بالفكر التوحيدي الفاطمي للاضطهاد في بلاد الشام بدايته كانت في دمشق وضواحيها، ولابد من أن أعداداً من الموحدين فروا من الظلم، والاضطهاد الذي وقع عليهم إلى المناطق الجبلية الوعرة البعيدة، والآمنة، ذات الملاجيء الطبيعية في بلاد الشام كجبل حوران. وبرز في ذاك الزمان اسم القائد التركي أنوشتكين الدزبري* الذي أرسله الخليفة الفاطمي في مصر الظاهر لإعزاز دين الله (1020 – 1036م) سنة 1028م لقتال المتمردين في الشام، ومضطهدي الموحدين، وحصلت معركة الأقحوانة بالقرب من طبرية في فلسطين سنة 1029(2)، التي كان من أبطالها رجال بني كلب الذين اعتنقوا الفكر الديني التوحيدي الفاطمي بقيادة الأمير رافع بن أبي الليل الكلبي إبن عم زعيم وأمير قبيلة بني كلب سنان بن عليان، والذين استطاعوا قتل عدوهم صالح بن مرداس، الذي اشترك مع والي دمشق عبد الرحيم بن الياس في اضطهاد الموحدين، وقتلهم. وكانت معركة الأقحوانة معركة مصيرية للخلافة الفاطمية أدت إلى إعادة سيطرة الفاطميين على جنوب بلاد الشام ووسطها، وجعلت حكم الشام بيد أنوشتكين، الذي تلقب بُعيد معركة الأقحوانة بالأمير المظفر.
استمر الوضع السياسي مضطرباً، وغير مستقر في بلاد الشام، ومن ضمنها حوران وجبلها، وهنا في هذا البحث الذي يهمنا هو المكون البشري للجبل، فقد تتالت العقود والسنوات حيث
__________________
(1) بيطار: 1980م، ص 77.
*أنوشتكين الدزبري هو أمير الجيوش الفاطمية في الشام، كان تركياً ولد في منطقة خطل حيث نهر جيحون، بيع وهو غلام في دمشق إلى ضابط فاطمي من أصل فارسي يعرف باسم دزبر، وكان هذا لقبه، وبعدها دخل في خدمة الخليفة الحاكم بأمر الله، ثم سار إلى دمشق مع الجيش الفاطمي، وبعد انتصار الفاطميين في معركة الأقحوانة تلقب بالأمير المظفر وحكم الشام، وتزوج إبنة الأمير رافع بن أبي الليل الكلبي، الذي أصبح أمير قبيلة كلب خلفاً لعمه سنان بن عليان بعد وفاته.
(2) ابن القلانسي: 1983م، ص118 – 120.
شهدت مناطق جبل حوران التي كانت آهلة بالسكان عدم استقرار سياسي، وتراجع في أعداد التجمعات السكانية المستقرة، وازدياد هجمات البدو الرحل، وبدأ التراجع الحضاري، والركود لمناطقه، ربما آنذاك بسبب عوامل طبيعية منها الاستثمار المكثف للزراعة سابقاً، وتوالي سنوات شح الأمطار والجفاف، وزيادة رعي المواشي، وشدة الحرارة، فبحسب الباحثين ارتفعت درجات الحرارة في الجبل ما بين السنوات 700 – 805م، وقادت إلى بدايات الجفاف
في حاضراته، إضافة إلى عوامل بشرية كالمعاملة السيئة التي كان يلاقيها السكان المستقرون في القرى والمدن على أيدي المرتزقة من المتنفذين، وجباة الأموال، الذين كانوا يحاولون الاستيلاء على محاصيلهم الزراعية، هم وأسيادهم من المسيطرين على بلاد الشام من الأعاجم، سواء أكانوا زنكيين، أو أيوبيين، أو مماليك، وانتشار أعمال السلب والنهب، كل ذلك أدى إلى ترك السكان لمناطق الجبل، وخرابها لسنين عديدة، وتحوله لمرتع للقبائل البدوية الرعوية حتى سنة 1685م مجيء أحد أمراء آل علم الدين مع 1500 شخص من لبنان إلى الجبل، ومن ضمنهم عائلة الحمدان، وسكنهم في حافة اللجاة الجنوبية في بلدة نجران، ثم رحيل آل علم الدين من الجبل إلى بلدة إبل السقي، وبقاء الشيخ الحمدان الذي بسط نفوذ عائلته في ربوع الجبل، حصل هذا بعد انتقال السلطة السياسية في بلاد الشام من المماليك إلى الاحتلال العثماني التركي بعد معركة مرج دابق شمال حلب سنة 1516م، وقيام الأتراك بأعمال اضطهاد للكثير من السكان في مناطق بلاد الشام بقصد فرض الطاعة، والتجنيد، وجباية الضرائب، كذلك بسبب الاختلاف في العقيدة الفكرية الدينية، أدى كل ذلك إلى بدء توافد عائلات الموحدين الدروز من جميع أنحاء بلاد الشام إلى الجبل، من أنطاكية، وحلب، وإدلب باحثين عن الأمان والاستقرار، وبُدء بإعادة الحياة الحضرية العمرانية من جديد إلى مناطق الجبل، وإعادة الزراعة، وغراس العنب والثمر، ثم توافدت موجة أخرى من أجدادنا الموحدين إلى الجبل من لبنان، وجبال الجليل، ثم من وادي التيم، وهضبة الجولان، وغوطة دمشق، حيث سُكنت الخرائب القديمة، وازداد العمل في تنمية الحقول الزراعية، وذلك بعد أن دخل الجبل ضمن جباية الضريبة للاحتلال العثماني سنة 1880م، حيث نعُمت مناطقه بالاستقرار، وبدأ الازدياد الطبيعي لسكان الجبل تدريجياً، وتنميته الحضارية في كافة المجالات من جديد، حيث بلغ تعداد سكانه سنة 1880م (27450) نسمة. في الواقع كل شيء في الجبل كان يحث السكان آنذاك على اتباع نفس خطى سابقيهم أجدادهم العرب الأنباط، والتنوخيين، فلم تكن بعيدة عنهم، كفن الانتفاع بالمياه من برك، وقنوات، وأسقف ربد، وقناطر معقودة، وحقول محددة بواسطة الحجارة المُعزلة. إن أسلوب الاستيطان، والتطور، والتنمية للعصور القديمة في جبل حوران مشابهة لما نعرفه اليوم، أو نشهده الآن من أنماط حياة معروفة في وقتنا الحاضر، منطقة جبلية تضم مجتمع سكاني خليط من العقائد الفكرية الدينية متعايش مع بعضه البعض في منطقة تُعد نقطة تلاق بين الحضر والبدو، يرافق ظروفها البيئية والمناخية عدم استقرار طويل الأمد، منطقة تمسكت تمسكاً شديداً ببنياتها الاجتماعية التقليدية التي وازى بها مجتمع القرية مجتمع المدينة، ومهدت للتطور، والتنمية العمرانية، والاقتصادية، والفكرية، والاجتماعية بشكل متسارع. وهنا نقف عند جمل وتراكيب كثيرة تزخر بها عدد ليس بالقليل من كتب التاريخ منها “السكان الجدد الحاليين” – “أول هجرة لبنانية وتوطن أفرادها في الجبل” – “الدروز سكان الجبل الحاليين” وغيرها، لهؤلاء الكتبة نقول: إن معظم العائلات الموحدة “الدرزية” في الجبل تنحدر من سلالة التنوخيين، الذين تمازجوا مع أبناء عمومتهم سكان الجبل الأصيلين من أنباط، ومن سبقهم، وكان التنوخيون موجودين أصلاً في الجبل منذ القرون الميلادية الأولى بدلائل النقوش الكتابية كما تقدم في سياق البحث، والغساسنة الذين هم من أزد اليمن، والقسم الأعظم من بني كلب القحطانية اليمنية وهم من تنوخ، وكلاهما كانوا يعتنقون المسيحية في حوران عند قدوم العرب المسلمين إلى بلاد الشام، وقد أسلم بعضهم، ثم تحول الكثير منهم بعدها إلى اعتناق الفكر التوحيدي الفاطمي عند انطلاق الدعوة التوحيدية (الدرزية) في بلاد الشام. إن أجدادنا الموحدون في الجبل لم يكونوا سكاناً “جدد”، ولا “مهاجرين”، وإنما رجعوا من جديد إلى ديار وإرث آبائهم وأجدادهم القدماء، عادوا بعزمهم، وتصميمهم، وجلدهم بوجه كل من يقف حجر عثرة لإعادة استقرار الجبل، وأمانه، وتنميته، وتطوره، فتصدوا للأساليب الاستعمارية الغاشمة التي مارسها كل من الاحتلال العثماني التركي، وأعوانه، ولم تهدأ عزيمتهم إلا بزوال الاستعمار الأوربي الفرنسي عن جبلهم الأشم، وتحقيق استقلال وطنهم الأم سورية.
المراجع العربية والمعربة:
_أبو عساف، علي: الآثار في جبل حوران، دار شمأل، دمشق، 1993م.
_ أثناسيو، هاجي متري: موسوعة بطريركية أنطاكية التاريخية والأثرية، مجلد5، ط1، 1997م.
_ ابن الأثير (عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم): الكامل في التاريخ، ج1، دار صادر، بيروت، 1979م.
_ ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج2، مؤسسة الأعلمي.
_ابن كثير (إسماعيل أبو الفدا): البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، ج2، دار إحياء التراث العربي، 1988م.
_ ابن العديم (الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جراده): بغية الطلب من تاريخ حلب، تحقيق سهيل زكار.
_ابن عساكر (أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله): تاريخ دمشق، تحقيق محب الدين أبي سعيد عمر بن غرافة العمري، ج70، دار الفكر، دمشق.
_ ابن القلانسي، تاريخ دمشق، تحقيق سهيل زكار، دار حسان للطباعة والنشر، ط1، دمشق، 1983م.
_ ابن منظور ( أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم): لسان العرب، دار صادر، بيروت.
_ الأصفهاني (حمزة بن الحسن): تاريخ سني ملوك الأرض والانبياء، دار مكتبة الحياة، بيروت.
_ بيطار، أمينة: موقف أمراء العرب بالشام والعراق من الفاطميين حتى أواخر القرن الخامس الهجري، دار دمشق للطباعة والنشر، ط1، دمشق، 1980م.
_ البلاذري (أحمد بن يحيى بن جابر بن داوود): أنساب الأشراف، تحقيق محمد باقر المحمودي، ج3، دار التعارف، بيروت.
_ حتي، فيليب: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، ترجمة جورج حداد، عبد الكريم رافق، مراجعة جبرائيل جبور، ج1، دار الثقافة، بيروت، 1958م.
_ الحموي، ياقوت: معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1979م.
_ دلو، برهان: جزيرة العرب قبل الإسلام، ج2، الفارابي، 1989م.
_ الدبس، يوسف: تاريخ سورية الديني والدنيوي، مجلد3، ج2.
_زكار، سهيل: الجامع في أخبارالقرامطة، دار حسان للنشر، دمشق.
_ زكريا، أحمد وصفي: عشائر الشام، ج1، دار الفكر، ط2، دمشق، 1983م.
_ زيدان، جرجي: العرب قبل الإسلام، ج1، مطبعة الهلال، مصر، 1908م.
_زيتون، عادل: تاريخ العرب والإسلام حتى نهاية العصر الأموي، مطبعة جامعة دمشق، دمشق، 2011م.
_ ستاركي، ج: الكتابات والنقوش النبطية، سورية الجنوبية، تعريب أحمد عبد الكريم، سالم العيسى، ميشيل العيسى، ج1، دار الأهالي، ط1، دمشق، 1985م، ص 251 – 273.
_ شيفمان: المجتمع السوري القديم، ترجمة حسان إسحق، ط1، دمشق، 1987م.
_ الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير): تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج1، دار المعارف بمصر، ط4.
_ الطوالبة، ضياء الدين: موقع أم القطين في البادية الشمالية الشرقية، حولية دائرة الآثار العامة الأردنية، 47، عمان، 2003م، ص 45 – 51.
_ عبد السلام، عادل: الطبيعة الجغرافية لمحافظة السويداء، الحوليات الأثرية العربية السورية، مجلد 41، المديرية العامة للآثار والمتاحف، مطابع وزارة الثقافة، دمشق، 1997م، ص 23 – 42.
_ علي، محمد كرد: خطط الشام، ج 1-2، دار الفكر، دمشق، 1983م.
_ علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج3، دار العلم للملايين، ط1، بيروت،1969م.
_ عاقل، نبيه: تاريخ العرب القديم والعصر الجاهلي، مطبعة جامعة دمشق، ط4، 1992م.
_ العش، محمد أبو الفرج، “نشأة الخط العربي وتطوره”، الحوليات الأثرية العربية السورية،
مجلد 23، المديرية العامة للآثار والمتاحف، مطابع وزارة الثقافة، دمشق، 1973م، ص55-83
_ فوت، بولين دونسيل، “السويداء وقنوات مركزان هامان للحج المسيحي في سورية الجنوبية”، ترجمة حسن حاطوم، الحوليات الأثرية العربية السورية، مجلد 41، المديرية العامة للآثار والمتاحف، مطابع وزارة الثقافة، دمشق، 1997، ص185 – 190.
_ فيلنوف، فرانسوا: الاقتصاد الريفي في حوران القديمة (من القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن السابع بعد الميلاد)، سورية الجنوبية، تعريب أحمد عبد الكريم، سالم العيسى، ميشيل العيسى، ج1، دار الأهالي، ط1، دمشق، 1985م، ص 101 – 207.
_القلقشندي، أبو العباس، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، تحقيق إبراهيم الأنباري
_ مجموعة من المؤلفين، موسوعة سويداء سورية، منشورات دار علاء الدين، ط1، دمشق، 1995.
_ مروة، حسين، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج2
_المسعودي (أبو الحسن علي بن الحسين بن علي): مروج الذهب، ج2، دار الأندلس، ط1، بيروت، 1984م.
_ المقداد، خليل، حوران عبر التاريخ، دار حوران للنشر، ط1، دمشق، 1996م.
_ هبو، أحمد رحيم: تاريخ العرب قبل الإسلام، جامعة حلب، 1979 – 1980م.
_ الهمذاني (أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب): صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد بن علي الأكواع الحوالي، دار اليمامة، الرياض.
F0REIGN REFERENCES:
_Bounni.Adnan: 1991, les Nabateens en Syria du Sud, le Djebel al–Arab, Paris, 1991, P.21 – 23.
_Bowersock.G.W: 1983, Roman Arabia, Cambridge Mass, Londres, 1983.
_ Kammerer.A, 1929, Petra et la Nabaten, Paris, 1929
_PAAES= the Pubications of an American Archaeological Expedition to Syriain 1899 – 1900, IV, A.
_ Sartre. M, 1982, ”tribus et clans dans le Hauran antique”, Syria, 59, P. 77 – 91.
_ Sartre. M, 2007, le cadre historque et les inscriptions”, Bosra, aux ports deL’Arabie, IFPO, Beyrouth, 2007, P. 25 – 30.