حسين الإبراهيم
كاتب وصحفي متخصص بالإعلام الرقمي
طرح الفيلسوف كارل بوبر في كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه” (1945) مفهوماً جديداً هو “مفارقة التسامح”، يشير إلى أن التسامح المطلق قد يؤدي إلى تدمير نفسه إذا سمح بانتشار أفكار غير متسامحة. في السياق السوري، حيث تشكل قضايا التعايش والتعددية تحديًا كبيرًا بعد سنوات من الصراع، يصبح فهم هذه المفارقة ضروريًا لبناء مجتمع متوازن.
خطر التسامح غير المحدود
يمكن للتسامح الذي لا يستند إلى معايير منهجية أن يصبح أداة لتعزيز التطرف بدلاً من احتوائه. عندما يسمح المجتمع لأفكار متعصبة أو عنصرية بالانتشار تحت شعار حرية التعبير، فإن ذلك قد يقوض قيم التعايش. في سورية، حيث تتنوع المكونات الدينية والعرقية، يمكن أن يؤدي التسامح المفرط مع الخطابات الطائفية أو الانقسامية إلى إعادة إنتاج العنف.
يرى “بوبر” أن المجتمع يجب أن يحد من التسامح مع الذين ينكرون التسامح نفسه، لأن السماح لهم بالهيمنة يعني تدمير أسس المجتمع الحر.
عندما يتحول المبدأ إلى أداة اضطهاد
التسامح، في جوهره، هو اعتراف بالآخر واحترام لحقه في الاختلاف. لكن بعض الأفراد أو الجماعات قد يحوِّلون هذا المبدأ النبيل إلى وسيلة للهيمنة، مستغلين ثقافة التسامح السائدة لنشر أفكارهم المتعصبة أو لقمع المختلفين. الخطير في الأمر أن هذا الاستغلال لا يتم عادةً عبر العنف المباشر أو القوانين القمعية، بل عبر آليات أكثر دهاءً، تُظهر المتسامحين وكأنهم “ضعفاء” أو “غير متمسكين بقيمهم”، بينما يقدم المتطرفون أنفسهم كمدافعين عن “الهوية” أو “الثوابت”.
أوجه استغلال التسامح في المجتمعات المتنوعة
في بعض الحالات، يتم توظيف خطاب التسامح ذاته لإسكات الأصوات المعارضة أو المختلفَة. فمثلًا، قد ترفع جماعة ما شعار “احترام الرأي الآخر” لتبرير خطاب كراهيتها، وتتهم كل من يعترض على هذا الخطاب بأنه “غير متسامح”. وهكذا يُقلب المبدأ ضد نفسه، حيث يُستخدَم التسامح كذريعة لتمرير أفكار عنصرية أو طائفية تحت غطاء “حرية التعبير”.
في سورية، قد نجد أمثلة على ذلك في الخطابات التي ترفض النقد تحت عنوان “عدم المساس بالثوابت”، أو التي تزعم الدفاع عن الدين أو الهوية الوطنية بينما تروج في الواقع لاستبعاد مكونات اجتماعية كاملة. بعض الأطراف قد تتبنى خطابًا ظاهره الاعتدال، لكنه في العمق يكرس التمييز، مثل الدعوة إلى “التسامح” مع فئة معينة لكن بشروط مهينة، أو بفرض وصاية عليها تحت ذريعة حمايتها.
لا يمكن فرض التسامح بالإكراه
الخطر الأكبر هو عندما تُستخدم أدوات الدولة أو المجتمع لفرض “التسامح” عبر الإجراءات القسرية، مثل القوانين التي تُجبر الناس على “تقبل الآخر” تحت طائلة العقاب. مثل هذه الممارسات لا تُنتج تعايشًا حقيقيًا، بل تخلق مجتمعًا يعيش في قلق دائم، حيث يصبح الخوف من العقاب هو الدافع الوحيد للتعامل مع الآخر، وليس القناعة أو الاحترام المتبادل.
في بعض النماذج العالمية، أدت محاولات فرض التعايش عبر القوانين الصارمة إلى نتائج عكسية، حيث زادت النفور بين الجماعات، وتحول التسامح إلى مجرد شكليّة خالية من المضمون. أما في سورية، فإن أي محاولة لفرض الوئام الاجتماعي عبر الترهيب أو القمع ستؤدي إلى مزيد من التصدع، لأن التسامح الحقيقي لا يُفرض من فوق، بل ينبع من ثقافة مجتمعية تُبنى عبر الحوار والعدالة والاعتراف المتبادل.
كيف نواجه استغلال التسامح دون اللجوء إلى القوة؟
الحل لا يكمن في منع الحريات أو فرض رقابة صارمة، بل في تعزيز مناعة المجتمع ضد خطابات الكراهية عبر:
- التعليم النقدي: تنمية قدرة الأفراد على تحليل الخطابات وتمييز التسامح الحقيقي من الزائف.
- الحوار المجتمعي: خلق مساحات آمنة للنقاش بين المختلفين، بعيدًا عن لغة التهديد أو الإقصاء.
- الإعلام الموضوعي: كشف التناقض في الخطابات التي تزعم التسامح وهي في الواقع تكرس التمييز.
- العدالة التصالحية: معالجة جرائم الكراهية عبر آليات تعويضية تعيد بناء الثقة بدلًا من العقوبات الانتقامية.
التسامح لا يُفرض، بل يُزرع
التسامح ليس شعارًا يُرفع، ولا قانونًا يُفرض، بل هو ثقافة تنمو في تربة الحرية والمساواة. أي محاولة لتعزيزه عبر الإكراه ستحوِّله إلى أداة قمع جديدة. أما الطريق الحقيقي فهو تمكين المجتمع من مواجهة خطابات الكراهية بوعي، لا بخوف، وبقناعة، لا بإجبار. فقط حينها يصبح التسامح قيمة حية، وليس مجرد قناع يخفي تحته استمرار الصراع.
منهجية التسامح المثلى: نحو تعايش مستدام
في ظل التنوع الديني والثقافي الذي تتمتع به سورية، يصبح التسامح ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل ضرورة اجتماعية وسياسية لضمان الاستقرار. لكن التسامح، كما أشار “كارل بوبر”، لا يمكن أن يكون مطلقًا دون ضوابط، وإلا تحول إلى أداة لتفكيك المجتمع نفسه. لذلك، فإن بناء منهجية متوازنة للتسامح في سورية يتطلب مقاربة شاملة تعتمد على التشريعات الرشيدة، والتربية الواعية، والمؤسسات الفاعلة، والإعلام المسؤول:
- التشريع كحامٍ للتسامح
لا يكفي أن يكون التسامح مبدأً أخلاقيًا يُنادى به، بل يجب أن يتحول إلى إطار قانوني يحمي التنوع ويحد من خطابات الكراهية. فالقوانين السورية بحاجة إلى أن تُحدد بوضوح ما يشكل انتهاكًا لمبدأ التعايش، مثل التحريض الطائفي أو التمييز العرقي، مع ضمان أن تكون هذه القوانين عادلة وغير انتقائية. كما أن وجود جهات قضائية مستقلة قادرة على محاسبة من يروجون للانقسام، ضروري لتعزيز الثقة بين المكونات المجتمعية.
لكن التشريع وحده لا يكفي، إن لم يقترن بثقافة قانونية، تُعزز الوعي بالحقوق والواجبات. فالمجتمع الذي يعرف حدوده القانونية يصبح أكثر قدرة على رفض التطرف دون اللجوء إلى العنف.
- التربية: أساس بناء العقل المتسامح
لن تنجح أي قوانين في فرض التسامح إن لم تكن هناك تربية تُغرس قيم التعايش منذ الصغر. المدرسة في سورية يجب أن تكون فضاءً لا يُعلم الطلاب المواد الأكاديمية فحسب، بل يُربيهم على احترام الآخر، بغض النظر عن انتماءاته. وهذا يتطلب مراجعة المناهج الدراسية لتضمينها مفاهيم الحوار وقبول الاختلاف، وتجنب أي مضامين قد تعزز الانقسام.
كما أن التعليم غير الرسمي يلعب دورًا حاسمًا، من خلال الأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تجمع الشباب من مختلف الخلفيات. فالتجارب المشتركة تُذيب حواجز الخوف والجهل، وتُظهر أن التنوع مصدر قوة وليس ضعف.
- دور المؤسسات في تعزيز التسامح
المجتمع المتسامح لا يُبنى من خلال الأفراد فقط، بل يحتاج إلى مؤسسات تدعم هذا المبدأ. منظمات المجتمع المدني، على سبيل المثال، يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في رصد خطاب الكراهية وتقديم بدائل حوارية. كما أن المؤسسات الدينية مطالبة بتعزيز خطاب الوحدة بدلًا من الخطابات التي تكرس الانقسام.
أما الدولة، فمن واجبها أن تضمن أن هذه المؤسسات تعمل في بيئة داعمة، دون خوف من القمع أو التهميش. فالمجتمع القوي هو الذي يسمح بمشاركة الجميع في صناعة مستقبله، دون إقصاء أو تهميش.
- الإعلام: بين التحريض وبناء الجسور
للإعلام تأثير بالغ في تشكيل الرأي العام، وفي سياق مجتمع متنوع مثل سورية، يمكن أن يكون الإعلام سلاحًا ذا حدين. فإما أن يكون أداة لتعزيز التسامح عبر نشر قصص التعايش الناجحة، وإما أن يتحول إلى منصة للتحريض والتقسيم.
لذلك، فإن إعلامًا مسؤولًا يجب أن يلتزم بأخلاقيات المهنة، ويتجنب الإثارة العاطفية التي تغذي الصراع. كما أن دعم المبادرات الإعلامية التي تُعطي صوتًا لجميع فئات المجتمع، دون تحيز أو إقصاء، يمكن أن يساهم في خلق بيئة إعلامية تعكس حقيقة التنوع السوري بكل غناه.
التسامح والعدالة الانتقالية والسلم الأهلي: مثلث إعادة البناء
لا يمكن فصل مسار التسامح في سورية عن إشكالية العدالة الانتقالية وبناء السلم الأهلي، فهذه العناصر تشكل معاً نظاماً جدلياً متكاملاً. فالتسامح بدون عدالة يصبح إفلاتاً من العقاب، والعدالة بدون تسامح تتحول إلى انتقام مزمِن، وكلاهما بدون سلم أهلي يبقى مجرد تنظير بعيد عن الواقع السوري المكلوم.
التسامح المغشوش: عندما يصبح الغفران أداة للإفلات من المحاسبة
في غياب آليات عدالة انتقالية حقيقية، يُستخدَم “التسامح” كشعار لطي صفحة الماضي دون مساءلة. هذا النموذج يخلق تسامحاً مشوهاً، حيث يضحي الضحايا بـ”حقوقهم” تحت ضغوط “المصالحة الوطنية”، بينما يفلت الجناة من المحاسبة. هناك تجارب ونماذج من هذا “التسامح الإجباري” وهو ماشكل عبئاً على عملية التسامح، وهذا يعني ضرورة الابتعاد تسويق الصفح الجماعي كحل سريع، بينما يبقى جرح الانتهاكات مفتوحاً في الذاكرة الجمعية.
العدالة الانتقالية: الضمانة الوحيدة لتسامح حقيقي
لا يمكن بناء تسامح مستدام على أنقاض الظلم. فالعدالة الانتقالية – عبر آلياتها من محاكمات انتقالية، جبر ضرر الضحايا، وكشف الحقيقة– توفر الأرضية الصحية للتسامح. في سورية، يعني هذا أن الاعتراف بمعاناة كل الأطراف يجب أن يسبق أي خطاب عن “التسامح”. فالسوري الذي فقد عائلته أو تعرض للتعذيب لن يقبل التعايش بمجرد دعوات للنسيان، بل يحتاج إلى اعتراف قانوني ومادي ومعنوي بظلمه.
السلم الأهلي: الحاضنة الاجتماعية للتسامح
أي مشروع لتسامح حقيقي في سورية يجب أن ينطلق من إعادة تعريف العقد الاجتماعي، حيث:
- يُستبدل الولاء الطائفي بالمواطنة المتساوية
- تتحول الهويات المغلقة إلى انتماءات جامعة
- يُدار التنوع عبر مؤسسات تضمن المشاركة لا الإقصاء
هنا يبرز دور المبادرات المحلية كجسور مصغرة للسلم الأهلي، مثل مشاريع إعادة إعمار تضم أهالي مناطق متنازعة، أو منصات حوارية تجمع شباباً من خلفيات متحاربة. هذه التجارب الصغيرة قد تكون أكثر فاعلية من الخطابات الرسمية المجردة.
المعضلة السورية: أي نموذج نختار؟
تواجه سورية خيارين متناقضين:
- نموذج التسامح السطحي: يطوي الصفحة بالقوة، ويعيد إنتاج أسباب الصراع.
- نموذج التسامح العضوي: يربط المصالحة بالعدالة، ويعيد البناء على أسس جديدة.
الخيار الأول يضمن هدنة مؤقتة، أما الثاني فهو الطريق الوحيد لسلام طويل. الفرق بينهما كالفرق بين إخفاء الجرح تحت الضماد، وعلاجه من الجذور.
التسامح كعقد اجتماعي جديد
التسامح في سورية ليس نموذجاً من نماذج الترف، بل هو شرط أساسي للخروج من دوامة العنف وبناء مستقبل مستقر. لكن هذا التسامح يجب أن يكون واعيًا، يعرف حدوده، ويحمي نفسه من الذين يسعون إلى استغلاله. التشريعات العادلة، والتربية المتوازنة، والمؤسسات الفاعلة، والإعلام المسؤول، كلها عناصر ضرورية لتحقيق هذا الهدف.
التسامح الحقيقي ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو التزام يومي باحترام الإنسان، مهما كان مختلفًا. وعندما تتحول هذه القيمة إلى ممارسة يومية، يصبح المجتمع السوري نموذجًا للتعايش في منطقة تفتقر إلى أبسط مقوماته.