معين حمد العماطوري
رئيس تحرير مجلة الشمعة
خمس وسبعون عاما وهو يبحث في بطون المراجع، ويقدم المعلومة الافضل والأشمل بعد ان قدم عشرات البرامج وكتب مئات المقالات، اسس مشروع نهضة الموسيقا العربية، واعد مسابقات ابداعية وغيرها، كما الف موسوعة لتدوين اهم مئة عمل فني في كتاب الاغاني الثاني، ليأتي خبر رحيل الباحث والناقد الموسيقي والاستاذ الجامعي الدكتور سعد الله اغا القلعة كالصاعقة، وهو واحد من اهم الباحثين في علم الموسيقا، وافضل من اغنى المحتوى الرقمي ببرامج موسيقية تحليلية في العالم العربي، اضافة لكونه استاذا جامعيا اكاديميا نال الدكتوراه من فرنسا بعلم الهندسة المدنية وله العديد من الدراسات والبحوث والاشراف الهندسي على الدراسات العليا، كما درس الموسيقا في حلب قبل دراسته الجامعية، ودرس بالمعهد الذي درس به الموسيقا، باحث وموسيقي وعازف ماهر على التي القانون والعود.
ذكريات لا تنسى:
اذكر حينما عزمت على اعداد كتابي الاول بعنوان فهد بلان الفنان الانسان الذي راجعه وقدم له الراحل الكبير الناقد والباحث الموسيقي صميم الشريف، كان لزوما عليَّ ان التقي مع العديد من الباحثين والملحنين وشعراء الكلمة والموسيقيين والمهتمين بالفن واخبار الفنانين، واستقي من علومهم ما سنح لي تدوينها لإنتاج عمل يليق بشخصية فهد بلان الفنية ومدرسته الذي خطها مع الراحل الكبير عبد الفتاح سكر وغيره من الملحنين الافذاذ السوريين والعرب.
ولكن اللحظة الجميلة كانت حينما وقفت بين يدي الاستاذ الدكتور سعد الله اغا القلعة محاورا معه، ما ارغب بتدوينه، فما كان منه الا ان شجعني وطلب باستحياء ان اذهب الى غيره، وبكل تواضع قال لي اعتذر يا استاذ ان لم اشتغل على فن الاستاذ فهد بلان، وسيكون كتابك لاحقا مرجعا لي….
وحين التقينا في مؤتمر الموسيقا عام ٢٠٠٠ بدمشق وكان له ورقة عمل مميزة حول تأثير العولمة على الموسيقا العربية، قدمت يومها ورقة بعنوان التمرد الفني عند فريد الاطرش، ولأنه كان باحثا بارعا في فن وحياة فريد الاطرش…صحح لي بعض الاخطاء البحثية وعلى حد قوله واستفاد من بعض ما قدمت…

بعد المؤتمر بات في كل لقاء يصافحني ويردد مرحبا بالباحث الجديد المجتهد مبتسما ابتسامة المعلم للتلميذ
..افكار ابداعية:
بلا شك ما قدمه الفقيد الكبير الموسيقار الباحث الدكتور المهندس سعد الله آغا القلعة، يشكل علامة فارقة في الموسيقا العربية المعاصرة…سواء في التدوين المرئي عبر برامجه المتلفزة والتي مازالت بالذاكرة السورية حاضرة ومنها: “نهج الاغاني، عبد الوهاب مرآة عصره، اسمهان، حياة وفن فريد الاطرش، العرب والموسيقى في هذا البرنامج حاول توثيق برؤية علمية “المعرفة الموسيقية الصحيحة” لتكون معلومة فنية مرجعية متداولة بلغة مبسطة ودقيقة. ومرجعا للباحثين والمهتمين، كما اتخذ من برامجه نهجا علميا ليشكل رؤية نقدية جديدة في اسلوب التعاطي مع الحملة الموسيقية اللحنية، ومنحها تعابير هي محط انظار الدارسين الى يومنا.
وحين حاوره الكاتب والاديب حسن م يوسف عن علاقة الهندسة بالموسيقا اوضح ان “العلم والموسيقى عندي ليسا عالمين متوازيين، بل هما مكملان لبعضهما. المنهج العلمي الذي تعلمته في الهندسة ساعدني على فهم وتحليل الموسيقى بعمق، وحسي الموسيقي أضفى على عملي الهندسي بعداً جمالياً إضافياً.”
واذكر في احدى اللقاءات قلت له مستفسرا ان الراحل الكبير الموسيقار محمد القصبجي والسنباطي وعبد الوهاب وفريد الاطرش، طوروا بالموسيقا العربية، وارادوا بتطويرهم ان يأتي التطوير من خلال الموسيقا العربية ذاتها…
فتحدث بلباقته المعهودة قالا: أن تحديث الموسيقى العربية لا يعني التخلي عن أصولها، بل فهمها جيدًا أولًا، ثم تطويرها بوعي علمي وفني، وأن الإبداع الموسيقي يجب ألا ينفصل عن التحليل والدراسة العميقة، لأن العشوائية في التطوير تهدد الهوية الموسيقية للأمة.
أن التخصص الدقيق في العلم لا يتعارض مع الانغماس العميق في الفن، بل قد يمنح الفنان أدوات إضافية لفهم ذاته ومحيطه بشكل أفضل.”
فاجعة الرحيل والارث:
لعل فاجعة الموت هي الاكثر ألما حينما تستهدف قامات ثقافية ابداعية علمية تحتاجها الحياة في كل لحظة، والدكتور المهندس سعد الله آغا القلعة .١٩٥٠-٢٠٢٥ صعد الى السماء وهو يحمل ارثا من المعرفة والعلم والثقافة والانساني، اذ يقول قداسة البابا فرنسيس الذي غادرنا خلال الشهر الجاري “في السماء لا قيمة لما نملكه، انما لما نعطيه” الرحمة لروح الاثنين معا.
الفراق الصعب:
لابد للذاكرة السورية ان تختزن في خلدها الوطني وضميرها الوجداني قامة ابداعية موسوعية علمية بحجم الاستاذ الجامعي والموسيقي البارع والباحث في التراث ووزير السياحة الأسبق ومنتج تلفزيوني وناشر ومُعد ومقدم برامج لأكثر من (٣٠٠) ساعة بث، أطلق المكرم في المحافل الثقافية في دمشق والقاهرة وتونس والعديد من البلدان العربية والأجنبية.
لن ننسى زمن تسعينيات القرن الماضي أعمالا خالدة كما في: عبد الوهاب مرآةُ عصره – نهج الأغاني – أسمهان – ومشروعه كبير٣٠٠ ساعة عن الفنانة فيروز.
الدكتور سعد الله آغا القلعة …حقا العظماء والكبار لا يرحلون يبقى ذكرهم ينعش اللحظة الابداعية الجمالية، لروحك الطاهرة ألف سلام وتحية. في سماء الأبرار.