بقلم : الأستاذ الدكتور تيسير المصري[1]
“صناعة الثقافة” مصطلح من مصطلحات النظرية النقدية. استخدمه مفكرو مدرسة فرانكفورت (الفيلسوف الألماني النقدي: تيودور أدورنو وماكس هورك هايمر، 1895–1973)، ظهر في فصل: «صناعة الثقافة: التنوير باعتباره خداعاً جماعياً» من كتاب جدل التنوير لـ أدورنو عام 1944 رأت المدرسة أن الثقافة الشعبية اصبحت مصنعا ينتج سلعاً ثقافية (أفلام وبرامج ومجلات وغيرها) بهدف التلاعب بالمجتمع، بمساعدة وسائل الإعلام، هذه الثقافة جعلت الناس تنقاد لما تستقبله من وسائل الاعلام، بغض النظر عن واقعهم وظروفهم. جاء هذا الموقف من مدرسة فرانكفورت بعد أن استولت المصالح التجارية على الثقافة والمنتجات الثقافية، وحولتها إلى سلعةٍ تُفقدُ المجتمعاتَ ثقافاتَها القيِّمة، وتوجّه المجتمع المستهدَف إلى ما يُنتَج لا إلى ما يحتاج إليه حقيقةً. موهمةً إياه بأنّ ما ينتج هو طموحه وغايته.
الخطر في صناعة الثقافة أنها تخلق احتياجات نفسية لا يمكن أن يتم اشباعها إلا من خلال منتجات السوق الرأسمالي (وسائل تواصل اجتماعي، العاب الكترونية …). كم أنها تقضي على المنتجات الثقافية القيمة والراقية، ذات الأبعاد الفكرية والحضارية والخطر الأكبر هو أنها تستخدم لتغيير ثقافات الشعوب (صناعة الجماهير) وتوجيهها لخدمة المصالح المادية لرأس المال، حتى ولو كان التغيير على حساب المجتمع نفسه صناعة الثقافة تسهم في خلق أنماط تفكير ثابتة وتعممها. فتبدو المجتمعات في العالم كأنها مجتمع واحد، أو مجتمعات مستنسخة.
في هذه المجتمعات يتم تسويق المادة الثقافية الجاهزة، كأيّ سلعة، دون مراعاة خصوصية المجتمع. مستهلكو المادة الثقافية أنفسهم بات بالإمكان أيضاً استبدالهم وبيعهم وشراؤهم، وصناعة رأيهم العام، وصوغ الواقع وقولبته في أذهانهم .في هذه المجتمعات يحتكر رأس المال المنتجات ويسوقها ويحتكر العقول ويوجهها لخدمته، ويحدد الأنماط الثقافية التي يجب أن تسود في المجتمع. صناعة ثقافة الجماهير أو الثقافة الشعبية تستخدم ثورة الاتصالات والمعلومات في تشكيل الوعي، واستطاعت أن تسيطر بسهولة أكبر على عملية صوغ الرأي العام المحلي والعالمي. لقد بات تشكيل الوعي الجماعي، وترويض العقل وهزيمته، أموراً في غاية السهولة لمن يمتلك الماكينات الاعلامية ويسيطر على تكنولوجيا المعلومات، ويفرض سلطته على الافراد والمجتمعات والدول
هنري لوك في كتابه «القرن الأميركي» (1941) أنبأ بسيطرة أميركا على العالم عبر «مزيج من القوة الاقتصادية والسيطرة الإعلامية وخلق الأفكار وصناعة الوعي… والرأي العام سيكون هو الجوهر الجذري الجديد للسلطة، سواء داخل البلاد أم خارجها». هذا أكده تقرير صادر عن إحدى لجان الكونغرس الأميركي بعنوان «كسب الحرب الباردة والعمليات الأيديولوجية والسياسة الخارجية»، يقول: «يمكن متابعة مواضيع السياسة الخارجية بالتعامل مباشرة مع الحكومات، وكذلك من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة وتقنيات الاتصالات التي تمكننا من الوصول إلى شرائح كبيرة ومؤثرة من سكّان البلدان الأخرى لإيصال المعلومة إليهم والتأثير في توجهاتهم، وربما في أوقات حساسة لتحفيزهم أيضاً نحو القيام بعمل معين. وحتى جعل هذه المجاميع قادرة على ممارسة ضغوط حاسمة على حكوماتها».. تمكنت صناعة الثقافة عبر الماكينة الاعلامية من تقريب التناقضات بحيث يصعب التمييز بينها. فبات يصعب التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الرأي والواقعة، بين الأخلاق الحميدة والفساد الأخلاقي، بين الجميل والقبيح، الخ.
هذه الصناعة ولدت «ثقافة زائفة» وصنعت معها مستلزمات وأدوات إنتاجها. فخلقت مثقفين وفنانين زائفين صنعت منتجات ثقافية وإعلام زائف، الخ. الثقافة الحقيقية عجزت عن مقاومة الثقافة الزائفة أمام ماكينة اعلام ذكية مسيطرة، وأطرت الثقافة الحقيقية لخدمة الأغراض التجارية
رئيس تحرير سابق لصحيفة «نيويورك تايمز» جون سوينتون يقول: «هنا، في أميركا، لا توجد صحافة مستقلة، نحن جميعاً عبيد. أنتم تعلمون ذلك وأنا أعلم ذلك، وإذا ما سمحتُ بنشر أخبار صادقة في صحيفتي فسيطردونني من عملي خلال أربع وعشرين ساعة، وستنتهي حياتي الصحافية. على الرجل الأحمق الذي يرغب في كتابة آراء حقيقية أن يبحث عن عمل آخر. إن عمل صحافيي نيويورك هو أن يكذبوا ويضلّلوا، ويشوّهوا الحقيقة، وأن يحرّفوا الوقائع من دون أي خجل. نحن مجرد أدوات، تابعون لرأس المال الذي يقف وراء الكواليس. إننا مجرد دمى، هم يحرّكون الخيوط ونحن نرقص. إنّ وقتنا وذكاءنا، وإمكانياتنا وآراءنا كلّها ملك أناس آخرين. نحن فكرياً كالعاهرات».
تجربة الصين في تغيير صورة الصناعة الثقافية
-1-أدركت الصين أن صناعة الغرب للثقافة تقدم إنتاجا ثقافيا مصطنعاً، (عبارة عن صور وأحلام وآمال وأماني وأغاني وغيرها) يهدد ثقافة الحضارة الصينية العريقة التي انغلقت على ذاتها وحافظت على خصوصياتها. وأنها مجبرة على المواجهة
-2-أيقن الصينيون أن الصناعات الثقافية ترتبط بالأيديولوجيا السياسية لأية دولة. فوضعوا استراتيجيات جديدة للصناعة الثقافية
-3-كما لاحظوا أن 20% من الدخل القومي الامريكي تحققه الصناعات الثقافية، فجاهدت لتطوير الصناعات الثقافية في شتى المجالات: السينما والفنون ونشر الكتب
-4-وأمام تحديات التطوير الاقتصادي والاجتماعي أدرك الصينيون ضرورة اخراج اقتصادهم من دائرة التقليد والترويج بأثمان رخيصة، إلى دائرة التجديد والابتكار التي مركزها الصناعات الثقافية
-5-أسس الصينيون ثقافة جديدة مغايرة تخرج بهم من دائرة التقليد إلى دائرة الابتكار والإبداع؟
-6-أدرك الصينيون صعوبات “تصنيع الثقافة”، والانتقال بها من مجرد أفكار وقيم ومثل إلى منتج محسوس قابل للتسويق
-7-فحللوا واقعهم أبعاده، وحددوا مواطن ضعفهم، ورصدوا مكامن القوة لديهم
-8-ثم صاغوا استراتيجياتهم ورسموا سياساتهم ووضعوا خططهم الثقافية
قبل حوالي 20 عاماً وضعت الصين صناعة الثقافة ضمن خططها الخمسية الشاملة للتنمية، في إطار خطة طويلة المدى هدفها التغيير الثقافي».
ادّت الخطط إلى تحقيق «ازدياد سنوي في دخل مؤسسات الصناعات الثقافية بلغ 20% سنويا. استغلت الصين في ذلك الثورة الرقمية
-9-استغلت الصين في صناعتها الثقافية الثورة الرقمية، فدعمت النشر الإلكتروني الذي يزيد سنويا بمعدل يقارب %17
= أطلقت ولا تزال منصات جديدة للنشر
=ظهر أدب الإنترنت بالتوازي مع المنتج المطبوع
= الأدباء الصينيين يعيشون من دخول روايتهم الإلكترونية، بسبب حماية الدولة لحقوق المؤلفين والمبدعين ومنع قرصنتها
-10-ركزت الصين في صناعاتها الثقافية على الهوية الصينية
-11-اهتمت بثقافة الانتماء وحرصت على خلق حب الانتماء إلى الصين وثقافاتها
-12-في التسعينات من القرن العشرين تم أعادة هيكلة العلاقة بين القطاعـيـن العام والخاص لتصبح علاقة تكامل تؤسس صناعات إبداعية في ثلاثة مجالات:الفنون، التصميم والميديا
-13-نجحت الصين في تغيير مفهوم الصناعات الثقافية، فحولتها إلى قطاع اقتصادي يسهم في5% من الناتج المحلي الإجمالي
= عام 2018، مثلا، حققت السينما الصينية حوالي 10 مليار دولار، وكانت الصين قبل أعوام تنتج 30 فيلما سنويا وهي تنتج الآن كل سنة حوالي 600 فيلم طويل
=إحدى شركات الخدمات الرقمية الصينية بدأت عام 2017 برأسمال مليون ونصف مليون دولار، وتبلغ قيمة الشركة الآن 120 مليون دولار
-14-سارعت مستويات التعليم بشكل كبير
عوامل نجاح التجربة الصينية/ من اهمها
– أدراكها لحقيقة واقعها الاقتصادي والاجتماعي ولضرورات تغييره
-إدراكها لخطر الصناعة الثقافية الغربية (الغزو الثقافي)وتهديداته لوجود الثقافة الصينية ولضرورات مواجهتها
– إدراكها لأهمية الصناعة الثقافية في تشكيل الوعي المجتمعي
– إدراكها لضرورة تعزيز وترسيخ ثقافة الانتماء وروح التعاون والتشارك
– وتحفيز الافراد والمصالح الخاصة للتفاعل بإيجابية مع شؤون الجماعة والمجتمع
– توافر الإرادة السياسية القوية لإحداث التغير الثقافي
– التراجع عن ثقافة التقليد والانتقال إلى ثقافة الابداع والتطوير
– توفير متطلبات المعيشة الاساسية حيث حدت من الفقر وكافحت البطالة
– استخدامها لأدوات الادارة العلمية العقلانية لإدارة طاقات البلاد ومواردها، والانتقال إلى الصناعة الثقافية البناءة
– تحليل عوامل القوة والضعف قبل رسم السياسات ووضع الخطط والبرامج
– ضخ الخبرات والمهارات وحشدها في إطار اقتصادي وثقافي واجتماعي مدروس
– إطلاق الموارد الثقافية وإتاحة الفرصة للمبدعين والمبتكرين.
– تحويل ثقافة الإبداع القائمة على التقليد إلى ثقافة التغيير والتطوير والابتكار
– بهدف إحداث تغيير ايجابي في السلوك الفردي والمؤسسي
– الاعتماد على موارد البلاد وقواها الحية وطاقاتها البشرية
– فتح الأبواب للاستثمارات الأجنبية لكن بشروط صينية
(بعد عام 1979، فتدفقت الأموال للاستفادة من العمالة الرخيصة والايجارات المنخفضة)
– تطوير مستويات التعليم بشكل كبير وسريع، وتشجيع البحث العلمي
(يتوقع ان 27 % من القوة العاملة في الصين تحظى بتعليم جامعي بحلول عام 2030)
– سن القوانين اللازمة لدعم هذه الصناعات وحماية الملكية الفكرية
وفرض عقوبات مشددة على انتهاك حماية حقوق الملكية الفكرية
– دعم أنشطة السياحة والترويج لها (أنشأت الصين خمس مناطق حرة للتجارة الثقافية بين دول العالم)
هذه أهم عوامل نجاح التجربة الصينية في التغيير الثقافي وصناعة الثقافة.
أفاق تطوير صناعة الثقافة
1- وجود قناعات راسخة بضرورة بناء ثقافة جماهيرية شعبية تقف في وجه المد الثقافي الهادف إلى غزو المجتمع وتحطيم ثقافاته الإيجابية، وتستطيع نقل المجتمع إلى مرحلة متقدمة من التطور الفكري المبني على قيَم وثقافات إيجابية تبني الأوطان
2-وجود ارادة حقيقية ثابتة وصلبة لإحداث التغيير والتطوير والتغيير الثقافي لدى قادة البلاد ونخبها الحاكمة وأجهزة إدارة الدولة وإدارة مواردها البشرية والطبيعية وغيرها
3-تنظيف المجتمع من كل رواسب الثقافات الهدامة ومظاهرها، خاصة ثقافة تعظيم الذات والسعي وراء المصلحة على تكون هذه العملية منتظمة، مدروسة، الشخصية على حساب مصالح العامة والمجتمع ومصالح البلاد ومواردها.
4-من هنا تأتي ضرورة دعم المشروع الوطني للإصلاح الإداري وتوسيع نطاقه ليشمل كافة مؤسسات القطاع الخاص والتعاوني والمشترك،وتطوير آليات عمله وخطوات انجازه لتسريع وتيرة الإصلاح والتغيير
5-استبعاد كل من ليس لديه الكفاءة والقدرة على التطوير والتغيير من إدارة شؤون البلاد، حتى وإن كان من أصحاب التخصص، واتاحة الفرص لمن لديهم مشاريع تطوير وتغيير
6-دعوة أصحاب الفكر واسعي المعرفة، دون اي استثناء، لتأسيس استراتيجيات تطوير ثقافي منهجي مخطط، تكون منطلقا لصناعة ثقافية ايجابية فاعلة.
7-«القضاء على ثقافة «كلنا مدير بالفطرة، والإدارة هي خبرة» وتعزيز ثقافة «الإدارة علم»
8-تغيير أنماط إدارة شؤون البلاد وخصوصا الثقافية بحيث تعطى للمختصين ذوي الثقافة الواسعة،وكلٌّ في مجال عمله
9-الاستفادة من تجارب الدول الأخرى مع مراعاة خصوصيات المجتمع عند وضع الاستراتيجيات ورسم السياسات ووضع الخطط الاستراتيجية والتكتيكية والخطط السنوية
هنا لا بد من التركيز على ما يلي
1-ضرورة أن تكون لثقافة الانتماء إلى الوطن الاولوّية على اي انتماء آخر مهما كان، وإعطاء هذا الانتماء قدسية خاصة-،
وترسيخه في الدستور، وايجاد سبل التحقق من مصداقية الانتماء لدى من يتعاطى شؤون العامة والمجتمع
2-مراعاة التنوع الموجود في ثقافات المجتمع وتوليف هذه الثقافات لتتناغم وتتكامل خدمةً لمصالح الوطن
3-تعزيز القيم الإنسانية واستبعاد كل ما يناقضها
4-تعزيز ثقافة التعاون والتسامح واحترام الرأي الآخر، وقبول الرأي الصائب،
5-تعزيز ثقافة الوطن لجميع ابناء الوطن أي ثقافة العدالة والمساواة
6-الاعتماد على الخبرات الحقيقية
7-الاعتماد على الموارد الذاتية للبلاد
8- تطوير ثقافة البحث العلمي للخروج من ثقافة التقليد والتوليف إلى ثقافة الابداع والابتكار، وربط جوهر البحث العلمي بمشكلات المجتمع. وإعادة النظر في مناهجنا التعليمية لتحقيق تكامل معرفي عضوي حقيقي لدى أجيالنا الناشئة، أساسا متينا للتطوير والابداع
9-الاستعانة برأس المال الأجنبي دون الرضوخ لشروطه
10-استغلال الطاقات العلمية والثقافية الهائلة لدى خريجينا ومثقفينا، وتوظيفها في صناعة ثقافية سورية متميزة
11-وضع خطط علمية مدروسة، استراتيجية ومرحلية وسنوية لصناعة ثقافية سورية متميزة قوامها الأصالة والابداع
12-سن تشريعات صارمة تحمي حقوق الملكية الفكرية-
13- اعتماد المعايير الدولية لمواصفات المنتجات ومواصفات الاداء لضبط أداء المؤسسات والأفراد بما فيها في الصناعة الثقافية
أخيراً
لا شك أن ما ورد في هذه العجالة يحتاج إلى الكثير من البحث والاهتمام والمتابعة، والى المصداقية في التعامل مع ما ورد فيها بعيدا عن الجدل العقيم: “أن نبدأ خير من أن لا نبدأ”، “وخير من وضع العراقيل أمام البدء”، كل العراقيل تزول عن البدء لان الارادة في التغيير تكون سبّاقة العمل.
———————————————————————————————————————–
الأستاذ الدكتور تيسير المصري
[1] كاتب وباحث أكاديمي يحمل شهادة دكتوراه في الاقتصاد اختصاص فلسفة نظرية المحاسبة – .
أستاذ في كلية الاقتصاد – قسم المحاسبة، بجامعة دمشق –
العميد السابق لكلية العلوم الادارية، جامعة الشام الخاصة –
العميد السابق لكلية الدراسات العليا، الاكاديمية العربية للأعمال الالكترونية –
محاسب قانوني مجاز .
مشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه.