معين حمد العماطوري
رئيس تحرير مجلة الشمعة
يشكل مفهوم القيم الاجتماعية في النصّ الأدبي عاملاً هاماً في مضمر رواية “فهرست الأحمر” للكاتبة والروائية “وجدان أبو محمود” التي نالت جائزة حنا مينه للرواية عام 2023- وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، ولعل معيار الجوائز وروائزها يتعلّق بذائقة لجان التحكيم التي تتفاوت وتختلف، لذلك لم يكن فوز الرواية بالجائزة هو أساس انتقائها للدّراسة، بل نتيجةً لما لابدّ وأن يشعر به القارئ من أهميةٍ في عملٍ يستحق الوقوف عنده مطوّلاً.
جاء الاختيار وفق موضوع الدراسة، الذي يتفرّع إلى شقين: الأول هو طبيعة النص الأدبي واللعب على ماهيته، من حيث اللغة والرمزية والدلالة والحبكة الفنية وتقنيات السرد التي تتميز بها الرواية عامة، والثاني هو القيم الاجتماعية التي عولجت بطريقة تختلف عن غيرها من المبدعين الروائيين، تلك القيم القابلة للتطوير والتغيير والتحسين والاختيار، إذ أنّ لكل كاتب أو روائي رؤيته وفكره في معالجة العمل وثقافة القيم الاجتماعية.
وضعت أبو محمود بين دفتي روايتها “فهرست الأحمر” عنواناً ينطوي على إشكالية في مفهومها كعتبة نصية، وحملت نصها قيماً مضمرة ذات دلالة أدبية، وحملت القيم إشكالية مجتمعية فكرية سياسية تاريخية، ضمن بنية النص الأدبي القائم على تدرجات في القيم الاجتماعية والثقافية، والتي تحتاج إلى المعالجة والتنقيب والبحث للوصول إلى الهدف، بحيث تكلل النص الأدبي بمجموعة من معطيات روائية جنحت بواقعيتها السحرية التخيلية نحو حبكة درامية معقدة، كما أنّها ألبست النص لبوساً لغويّاً جمالياً، واتكأت على التواتر والأسلوب التقني الجمالي، في إيصال ما تريد، رغم اختلاط وتشابك الأزمنة والأمكنة، لذلك يحار المرء بين جعلها رواية فصول وأبواب، أو عمل أدبي يحمل مشاهداً وصوراً وتعابير إشكالية بمفهومها الإبداعي…
قبل الولوج في عالم رواية “فهرست الأحمر” لابدّ من وقفةٍ مع الحالة التمردية الجريئة والثورة الكامنة في روح الشباب والتعاطي السردي الحكائي بلغة رشيقة ومفردات يقف عندها القارئ متفكّراً، إضافةً إلى الحبكة الفنية المتجددة، التي تميزت بها الكاتبة، بعودتها غالباً إلى جذر المفردة المنتقاة، وبما أن القيم الاجتماعية في النص الأدبي تدخل عالم الرواية عند أبو محمود بطريقة التسلل في التعدد والتنوع الوجداني، ضمن الأحداث الدرامية التاريخية وواقعية، بعيداً عن الالتزام والتقيد، الأمر الذي يتطلب وضع منهج خاصّ لدراسة الرواية، قبل إطلاق أحكام قيمة عليها من حيث النصّ الأدبي والقيم الاجتماعية، استناداً إلى المحاور التالية:
- العتبة النصية ودلالتها.
- تأثير القيم على المتغير التاريخي الروائي.
- اللغة عنصر تشويق وجذب المتلقي.
- تصنيف الرواية.
* العتبة النصية ودلالتها:
تعتبر العتبة النصية أو العنوان المدخل الأساس لإدراج مضمون العمل الأدبي، ولحظة اختارت وجدان أبو محمود “فهرست الأحمر” عنواناً لروايتها فقد دخلت في المدرك البصري للّون الأحمر وفق تدرجاته، التي تنعكس كل منها على قيمة اجتماعية.
والارتكاز إلى اللّون بحدّ ذاته يدخلنا في مجال الدراسات البصرية للفن التشكيلي ورمزيته ودلالته، وانعكاسه على المدرك العقلي والوجداني والنفسي، هذا فضلاً عن لعبة الكلمات، لأن التخيل، يأتي من الرؤية، وليس من المشاعر والأحاسيس، والرؤية وحدها من تمنح قيمة المشاعر والأحاسيس والغرائز، ولعل السؤال الأبرز أين هذا العنوان “فهرست الأحمر” من قيمة اللون وماهيته وفق تدرجاته!؟.

بما أن الكاتبة وضعت العنوان “فهرست الأحمر” وختمت فهرس الرواية بـ “تدرجات الأحمر” فإنّ هذا يدفعنا إلى دراسة تدرجات اللون الأحمر ضمن مجموعة العناصر اللونية للون الأحمر كالأحمر الكارمن على سبيل المثال وهو الأحمر القانئ المنسوب إلى الدم والثورة والعنف، ويبقى سؤال آخر يطرحه العنوان: هل ربطت الكاتبة المشاعر والغرائز وما طرحته من قيم اجتماعية بتدرجات اللون الأحمر أيضاً؟!.
هناك الأحمر الماجنتة: وهو قمة الإزهار والعطور الدال على الربيع، وهو القريب إلى الفوشي فهو يدل برمزيته للجاه، وهو يجمع بين التأمل والرغبات في اللون، وهو لون التقنع والتخفي لإظهار المشاعر.
الأحمر الفيرمليون: وهو قريب من البرتقالي، وهو يظهر الغريزة الجنسية، وهو بقاء وحياة، والروائيين وقفوا عنده مطولاً، فهو أس الحياة، والذي يتواجد في منطقة المعدة للحياة، عند سرّة الطفل.
وللأحمر عشرات التدرجات كل منها له إحساسه ومشاعره، وهو يحمل قيماً اجتماعيةً متفاوتةً، وهنا لابدّ من السّؤال: أين هو اللون الأحمر الحقيقي، في الرغبة، والشهوة، والنشوة، والصبوة؟
لقد وظّف العرب الألوان كقيمة لغوية في الشعر، والرواية، التي انتجت العديد من المعاني كقيمٍ بصريةٍ، وربما جاء اختيار اللون الأحمر مقصوداً ومتعمداً في هذه الرّواية، إذ لماذا لم تختر على سبيل المثال اللون الأخضر المتعلّق بالبحث في مجال الحياة والاجتهاد، أو الأزرق المرتبط بالوجدان والاتصال مع المطلق؟!، لقد آثرت اعتناق اللون الأحمر المائل نحو العواطف والرغبات والنشوة والشهوة والصبوة وعلاقته بالإنسان وقيمته الاجتماعية…
هنا نستطيع التأكيد على أنّ أبو محمود استطاعت دخول المدرك البصري عبر المدرك العقلي والنفسي والوجداني للوصول الى القيم الاجتماعية، بحيث قسمت رواية “فهرست الأحمر” إلى اثنتي عشر درجة منحت لكل منها عنواناً، وهذا التسلسل في العتبة النصية يمنح المتلقي فضولاً للمعرفة والبحث، يقيناً نحن أمام كتاب يعالج قضايا اجتماعية من جوانب واقعية، مستخدماً التاريخ كعامل للوصول إلى الهدف، ويتدرج وفق طبيعة اللون الأحمر الذي يحمل برمزيته وقائعاً وأحداثاً وقيماً، ولكن الكاتبة اتخذت الحيرة أسلوباً، في اكتشاف ما تريد، من خلال العنونة المتغيرة، وفق تغير الأزمنة والامكنة، وتسارع في تطور الشخصيات والتفكير، وغلفت نصها بلغة جمالية لتجاوز المألوف نحو التجدد…
رواية “فهرست الأحمر” وتكاد تكون متفرّدة في تضمين نهايتها فهرساً يحمل العناوين الرئيسية والفرعية وفي استبدال الدرجات بالمحاور والفصول، ولكن كيف جازفت بعنوان مختلف للفهرس في نهاية الرواية المنبثق من العتبة النصية وهو “تدرجّات الأحمر”؟! ، والذي جاء موزّعاً على اثنتي عشرة درجةٍ بأحداث متباينة فيما بينها، مستهلّةً الدرجة الأولى بــ ” ريتا فابينا”، وما تتضمنه من مشاهد، مثل هندي أحمر، والحسناوات والغيلان، وجناح الباز، المسحوق الأسود، المزهرية ابتداع ذهني، ميكانيكا الحلم، مقامات الحزن، لتدخل في الدرجة الثانية “ماوية نجيب الواثق” ثم الدرجة الثالثة “حكاية ماوية” والرابعة حبال الخلاص، ثم تحت سماء باردة، وأعشاش مهجورة، والعالم الأخر، وعودةُ الرَّجلِ الحجر، ثم طقوس التّجلي، ومرويات باب، والحياة الثانية، وبعد الدرجة الثانية عشرة: انسلاخ، يصادفنا عنوان “تدرجات الأحمر” كترميزٍ للفهرس، فأي فهرس للأحمر وأي تدرج لدلالة اللون والمعنى والرمز؟!.
بين العنوان الرئيس “فهرست الأحمر” وبين عنوان الفهرس “تدرجات الأحمر”، يحمل المضمر الدلالي السؤال التالي: “ما المقصود بالعنوان كعتبة نصية من الناحية النقدية؟!.
يشير الناقد الدكتور محمد صابر عبيد بأن العنونة كعتبة تحظى بالموقع الأوّل، في فضاء العتبات النصيّة، لما تتمتّع به من حساسيّة كبيرة، في تشييد معالم النصّ وإقامة بنيانه، وكان للعنونة منذ القديم أهمية على مستوى الحياة العامّة قبل الحياة الأدبية والنصيّة، إذ لا يمكن لأيّ شيء في الحياة بعامّة أن يحقّق هويّتَه من دون أن يكون له عنوان يحيل إلى فضائه ومعناه ودلالته ورمزيّته، والعنوان بداية الشيء وسبيله ومقصده ورأسه ودليله ومحطّته الأولى للانطلاق والشروع، ولا طريق إلى بلوغ فهمه وإدراك نيّـته ومعرفة مضمونه ومضمره من غير الاطلاع على عنوانه، ومن ثمّ تلقّي أطروحته على المستوى الدلاليّ والفنيّ والجماليّ[1].
إن الدراسات النقدية المشتغلة في النص الأدبي عملت على دراسة وتحليل التراكيب البنيوية للنص وخاصة العنوان كأداة فعالة في اكتشاف الهدف والمضمون، وهذا ما أكد عليه معظم الباحثين والدارسين في النقد الأدبي من حيث جعل دراسة العنوان كعتبة سردية دلالة في دخول عوالم المبدع، لذا كان العنوان النصيّ أداة فعّالة للدخول إلى عوالم العنوان وبلوغ مراميه، والتوصّل إلى مقاصده المباشرة، وغير المباشرة، فشجّعت الدراسات النقديّة الحديثة لأخذ عتبة العنونة –بمعيّة العتبات الأخرى طبعاً- ميداناً للقراءة والبحث والتحليل والتأويل، وصارت الآن ميداناً مستقلاً للدرس النقديّ الحديث، يكشف عن منهجيّة المبدع في رسم خريطة نصّه الإبداعيّ وتضاريسه ومضمراته، ويمكن أن يكون جزءاً أساساً من دراسة خطاب النصّ بأكمله، على نحو يجيب على أسئلته من النواحي كافّة[2].
يتضح أننا أمام مهمة، في قراءة العنوان، والدخول إلى تفاصيل مكنوناته، والقيم الدالة على ارتباطه، بتدرجات المراحل الزمنية والبيئة المكانية، من خلال دراسة النص، والقيمة والتواصل.
وهنا تجدر الإشارة إلى العملية البحثية لدراسة النص في الاعتماد على رسم خارطة العمل المدروس، وعلى رأي “آ. أي. ريتشاردز” فإن أية نظرية نقدية تقوم على دعامتين هما تقدير القيمة وتفسيرها، وتقدير التواصل وتفسيره، وفي ذلك تقويم الكل بفضل التفاصيل، بدلاً من العكس تماماً، وممارسة لعبة الأخذ بالوسائل، بدلاً من الغاية، والأخذ بالتقنية بدلاً من القيمة[3].
حمل نص وجدان أبو محمود قيمة مضافة بخلطها المفاهيم والأساليب وقد قدمت نصاً سردياً فيه من التخييل الكثير، فهي تحرص في اشتغالها على أمرين الأول تفاعل القارئ كمشارك في النص، والثاني العملية الإبداعية للتلقي، ولعلها رؤاها في نصها الروائي قد انصبّت في تعدّد اتجاهاته وفق الاتساق الزمني، وتنوع غني في خطه النفسي والاجتماعي.
ترى الناقدة الدكتورة لطفية إبراهيم برهم أن أغلب النقاد المعاصرين أكدوا على أن المناهج النقدية الحديثة لم تعن باستراتيجية القراءة في العملية الإبداعية، لأن اهتمامها ظل، إلى عهد قريب، منحصراً في ثلاثة عناصر تكون الظاهرة الأدبية هي: المؤلف، والسياق، والنص، وبذلك تكون هذه المناهج في رأيهم، قد نظرت نظرة وحيدة الاتجاه، من النص إلى القارئ، لاغية دور القارئ في العملية الإبداعية، وهذا يعني أن الاتجاهات النقدية قد ركزت قبل نظرية التلقي على قصد المؤلف، أو المعنى المعاصر النفسي والاجتماعي والتاريخي للنص، أو الطريقة التي تشكل بها ذلك النص، وهنا نسأل: وهل يمتلك النص معناه إلا عند قراءته؟.
ألا يعني هذا أن للقارئ دوراً في إنتاج المعنى سواء أكان هذا الدور صغيراً أم كبيراً؟
ففي الاتجاه التعبيري بفرعيه، المذهب الرومنسي، والاتجاه النفسي، ركزت الدراسات النقدية في حديثها عن القارئ على تأثيرات النص في القارئ، ومسألة التذوق والإيصال[4].

إن النص الأدبي بوصفه يمثل هندسة المؤلف وما يكتنفها من أفكار ورؤى فكرية وثقافية، يطرح شفرات نصية تجعل المتلقي يبحث في دلالة ومعاني اكتشاف الخفايا الكامنة في سباقٍ مع الزمن، ويجعل الكاتب يرسم في خطه التوافقي مع الذات والأنا صورة جمالية لنصه بطريقة عفوية، قائمة على الوعي للمدرك الحسي الجمالي، وللأحداث والشخصيات والرموز، لتدخل لاحقاً في السياق البنيوي للنص، في بيانات تعبر عما يختلج في قصدية المعاني النصية، دون النزوع إلى اكتناز تلك القصدية بالأنا المنفردة، فقد تركت للمتلقي قصديته ورؤيته في التحليل والتركيب لتشكل معه الأنا والأنت معاً في مفهوم قصدية النص.
المقاربة البنيوية حول مسألة القارئ تتمثل إما في أن يقوم القارئ بالاستجابة لشفرات النص، وإما في محاولة فرض استراتيجيات الأنساق على اللغة، وذلك لأن الرسالة تعبّر عن إنتاجية الشفرات والقواعد التي تميزها، تعبيراً تحدده الإمكانات الدلالية والنحوية والتوصيلية للعلامات ويؤدي إلى ما يسمى بالبيانات الجمالية[5].
تؤكد د. لطفية على أن القارئ في المنهج البنيوي خاضع كلياً لسلطة النص ذاته، والقراءة الإبداعية هي القراءة التي تسعى للكشف عن المكنونات البنيوية، والأنساق الداخلية للنص، لأنها تكشفه من خلال شفرته بناءً على معطيات سياقه الفني، أي أنها قراءة تسعى إلى كشف ما هو باطن في النص، وبذلك تجعل القراءة البنيوية القارئ أسيراً لشفرات النص[6].
ونصل إلى نتيجة مفادها أن العتبة النصية ودلالتها، تشكل عاملاً تفاعلياً بين النص والمتلقي، وهي لا تكتفي بطرح الدلالات والتفاعل بل بتعدد وتنوع المعايير، في الإدراك، والفهم، بالرؤية العقلية الوجدانية، من خلال الدال والمدلول فالحامل هو الدال اللون الأحمر والمدلول هو القيمة الاجتماعية.
إذ يكتمل التفاعل بين النص والمتلقي عندما لا يكتفي القارئ بمجرد الفهم بل ينتقل إلى محاولة التعرف العقلية والوجدانية، من خلال المدركات الثلاثة الوجداني والحسي والعقلي، وكذلك معايشة تجربة النص الأدبي بما فيه من أحاسيس وأفكار واتجاهات…عندئذ يثري القارئ تجربته الخاصة، ويخصبها، بانفتاحه على تجارب أدبية تقع تحت طائلة فهمه وإحساسه، وتصل، بمفهوم علم النفس بين الأنا والأنت من خلال الوسيط اللغوي[7].
وهذا ما سعت إليه الكاتبة في استخدامها العتبة النصية المتعددة في الاتجاهات والدلالات والرمز من خلال العنوان “فهرست الأحمر”، بجعل مدخل المدرك البصري ضمن مضمون النص الأدبي والقيم الاجتماعية.
*تأثير القيم على المتغير التاريخي الروائي:
لعل دراسة تأثير القيم الاجتماعية لعمل روائي ممزوج بأحداثه ومختلف في الأزمنة المتداخلة، يجعل إطلاق الأحكام عليها غير مستقرٍ أو وثابتٍ، بل لابد من تحديد نقطة الهيولى التي انبثقت منها الرؤية الثاقبة في المعالجة، ضمن سياق سردي وبأزمنة وأحداث تاريخية واقعية مختلفة وهذا يفرض على الدارس الاعتراف بالمنجز التحديثي في التفاعل مع النص من جهة وبالخيال التجريبي من جهةٍ أخرى، وبالتالي دراسة رواية تحتوي على مزيج تجريبي من الأحداث في أزمنة مختلفة يتطلب الاعتراف بالمغامرة الفنية، إذ لا يمكن تحديد ماهية القيم الاجتماعية بتحديد القيمة عينها، بل بمدى المعاناة، والبحث في اكتشاف تلك القيم، بين أروقة التاريخ ومجريات أحداثه ووقائعه، وكيف نُقلت ضمن عالم البيئة الاجتماعية، لتصبح قيمة واقعية، ذات شأن، بعد استيفاء الزمن من التجريب، بسلوكها ومعرفة الأبعاد الإبداعية في معالجتها، وربما السؤال الأهم كيف تمت تلك المعالجة؟!.
نحن نعلم أن المربع في اللون الأحمر أخذ نسبة إلى الطبائع الأربعة: الهواء، التراب، النار، الماء، عكس اللون الأزرق، الذي هو لون الدائرة، فهو يمنح التأمل، يكبر الامل والتأمل، حسب حجم الدائرة واتساعها، وتعدد الدوائر من الأصغر إلى الأكبر، أو عكس، أما في المدرك العقلي، نجده في اللون الأصفر، بالمثلث الذي يمثل: المادة والروح وقمة المثلث الأنا الأعلى، في اللون الأصفر المجسد المدرك العقلي، على حد قول “افلاطون” في جمهوريته.
لكن أبو محمود آثرت استخدام تدرجات اللون الأحمر في المربع أي انها عادت الى طبائع الأمور من خلال تدرجات اللون الأحمر لإنتاج القيم الاجتماعية.
لقد شهد عالم السرد الرّوائي عبر مسيرته العديد من التّجارب الإبداعيّة سواء أكان ذلك على مستوى المضمون أو الشكل بنوعيه /الشكل البصري المربع/ والتقني الفني السردي، وضمن هذا المسعى التّحديثي، برزت ظاهرة “التّجريب”، كفعل تغييري، ينطلق من فكرة المغامرة الفنيّة، والإتيان بما هو جديد، والثورة على ما هو سائد، من أنماط الكتابة الروائيّة، وكسر القوالب الجاهزة، التي تُصبّ فيها المتون السرديّة، ولهذا يصبح الروائي مسكوناً بهاجس البحث المستمر بغية التّجديد، والبحث عن أشكال فنيّة جديدة، وتقنيات قادرة على تغطيّة إشكالات الرّاهن، وملابساته، بعد أن باتت الرواية العربية المعاصرة تتبوأ منزلة هامة ضمن فنون التعبير الأخرى، وذلك من خلال اعتمادها على أساليب وتقنيات جديدة، سواء على مستوى الموضوعات والتقنيات الفنية المستخدمة، أو على مستوى الكتابة، وما استطاعت المساهمة به بتحطيم قيود التقليد، وطرح التمرّد على الشكل المعهود، الذي فرض ظهور مصطلح جديد لدى النقاد العرب، ألا وهو مصطلح “التجريب”.
يؤكد الناقد “محمد رضوان” أن تناول التجريب في الرواية السورية يكون عبر ثلاثة مستويات منها ابتكار عوالم متخيلة جديدة لا تعرفها الحياة العامة ولم تتداولها السرديات السابقة، مع تخليق منطقها الداخلي وبلورة جمالياتها الخاصة، ثانياً توظيف تقنيات فنية محدثة لم يسبق استخدامها في هذا النوع الأدبي، مع ملاحظة أن وجود بعضها في ثقافات أخرى لا يسلب منها الطابع التجريبي للمغامرة الروائية، وثالثاً اكتشاف مستويات لغوية في التعبير تتجاوز نطاق المألوف في الإبداع السائد، ويجري ذلك عبر شبكة من التعالقات النصية التي تتراسل مع توظيف لغة التراث السردي أو الشعري أو اللهجات الدارجة أوأنواع الخطاب الأخرى لتحقيق درجات مختلفة من شعرية السرد، وهنا لابد من الإشارة إلى أن النزعة التجريبية في الرواية السورية لم تكن مرتهنة بزمن معين أو بجيل روائي محدد[8].
إن دراسة القيم الاجتماعية على المتغير التاريخي في العمل الروائي له إشكالية في تحديد ماهية النص ومعالجته وتصنيف الرواية، وفق طبيعة السرد او الزمكاني؟
جنحت الرؤية نحو رواية “فهرست الأحمر” ذات اللبوس المختلف في المضمون والشكل، عن الرواية التاريخية، كونها تتضمن تواريخ واقعية، وتدخل في سياق الواقعية السحرية، المشروطة بخروجها من الزمكاني الكلاسيكي، والتعدد في الأزمنة والأمكنة، فإن الأمر يقف على الانزياح في الحكم، وبالإشارة لرؤية الناقد الدكتور خليل الموسى إن الرواية التاريخية مصطلح روائي فضفاض يتضمن التاريخ بشكل عام، كأن يتضمن في الرواية التاريخ السياسي او الاجتماعي أو الاقتصادي او الثقافي، وتاريخ المنظمات والانقلابات وسوى ذلك، كما يتضمن تاريخ الشخصيات الشهيرة، ولذلك ليست الرواية التاريخية واحدة في مسارها واتجاهاتها الفنية وموضوعاتها وان كانت سرداً تخييلياً يرتكز على وقائع تاريخية.[9]
يتضح من ذلك قد يحتوي المضمون في الشكل، ولكنها لا ترمز بدلالتها الى ما هي عليه في البنية، وفي رواية “فهرست الأحمر” بالمشهد المعنون “الحسناوات والغيلان دمشق1878” رغم انها تعالج موضوعاً فيه من الحداثة الكثير، بتداخل الأزمنة التاريخية والأمكنة، كواحدة من مهام الادب بذلك، والمعالجة النصية تكمن أهميته في الرواية بما قدمت من امثلة كأن تقول مثلاً:
يومَ تزوّجت، في مرحلةٍ متقدّمةٍ من صباها يهوديّاً ذا سلطةٍ، قادماً من قُدس الجدّة، يدعى “عزرا”، بدأت قصَّةُ أسرتنا، وانتهت قصَّتها بوصفها نجمةً شعبيّةً، كانَ ذلكَ مصادفةً بحتةً، تماماً كاختراعِ البنسلين، والبلاستيك، وأعواد الثقاب، فوَّتت عليَّ الأوراقُ النَّاقصات، إدراكَ دوافعِها، إلّا أنّي تكهَّنت بأنَّ خطَّةً، هائلةً، كانت تستدعي الخضوع لرجلٍ، وربّما استغلاله بصفته واجهةً، انتعشَ الزَّوجُ، المنهكُ بالدُّيونِ، بثروةِ زوجتهِ، واستطاعَ أن يشكّلَ ما يشبه مركزاً، صحّياً، صغيراً، مختصّاً بالخِتان، ضمَّ على تواضعهِ، ثلَّةً من يهود الشّام، المتمرّسينَ بمهنة “مطهّر”، وباتّحادِ السُّلطةِ مع المالِ، والجمالِ، تأجَّجَت بؤرةٌ فاقعةٌ من القوَّةِ، استمرَّ وهجها على مدى عقودٍ، متتاليةٍ، من الزَّمن، حيثُ برزت تقاطعاتٌ مذهلة ،ٌبين أحفاد بدريّة وعزرة، وعمومِ ذرّيتهما، شملت الفنَّ والثراءَ في آنٍ، بحيث لم تتمكّن السَّنوات الطَّويلة، من انتزاع مواهبهم، ولا ثرائهم الفاحش، وظلَّ النّاسُ يَستدلونَ على مواطئ أقدامهم، من قصورهم، المُدهشَة، وحدائقهم، الخلَّابة، المنتثرة، كالشامات في حنايا دمشق.
بعد نكسة حزيران عام 1967م، كابد أجدادي اليهود مشاعرَ التخبّطِ، وانغلقوا على أنفسهم، هاجرَ بعضُهم خوفاً، وبعضهم طمعاً، خلَّفوا وراءَهم أملاكَهم، وأعمالَهم، وبضعَ عجائزٍ، ظلّوا في أحضان ذكرياتهم، لأسبابٍ عاطفيّةٍ جدَّاً، أو قاهرةٍ جدَّاً، وعاماً إثرَ عامٍ، لم يتبقَّ منهم سوى قلَّةٍ، معظمها من كبار السِّنِّ، أمثال جدَّتي لأبي “قمحيّة” التي عُمِّرَت، لتشْهَدَ حِقباً كثيرةً، من تاريخِ البلدِ، ولتلملم ذكريات الآخرين في بيتها، بيتها الذي أمسى متحفاً، وذاكرةً جمعيّةً للرّاحلين[10].
التداخل الزمني بين العنوان المشهد عام 1878، وربطها بالحبكة الفنية السردية مع أحداث 1967 ما يقارب قرن من الزمن بين الأزمنة، وهنا المشهد السردي دون فراغ في التلقي يشعر بربط الوقائع من خلال معالجة الشخصيات والقيم الاجتماعية، التي أرادت الكاتبة انتزاعها، من بين أروقة الزمن المتبدل، بخط زمني مستقر ولون احمر متدرج، وبالتالي اتخذت من التجريب السردي الروائي رؤية لها في تمكين ما توصلت إليه من نتائج بحرية ذاتية.
ورغم توظيف الشخصيات توظيفاً إنسانياً بعيداً عن هندسة مؤلف للعمل، إلا أن الكاتبة اتخذت على سبيل المثال من شخصية “ماوية” شخصية محورية، أو من الزوجة السابقة، طارحة قيماً اجتماعية هامة، مثل التسامح، والجناية المجحفة بحق الإنسانية، تحت مسمى جرائم شرف، تلك المعالجات حيكت بخيط التحليل النفسي، على الشخصيات وأبطال الرواية، وكذلك بالتفكير الباطني، وفق العمق النفسي للسرد، وبالتالي ندرك انها تعمل على تدرجات الألوان من القيم الشكلية في المربع للون الأحمر وطبائعه الأربعة.
بالعودة إلى مفهوم التجريب يرى “ألان روب غرييه” من أجل رواية جديدة “إن قوة الروائي هي في أن يخلق…بكل حرية وبدون نموذج”، كما ادركنا ان الحرية هي اللون الأحمر القانئ او الكارمن، وهذه العبارة تؤسس للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها مفهوم التجريب الروائي، فالتجريب قرين الإبداع لأنه ينهض على ابتكار طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة، إذ هو جوهر الإبداع وحقيقته حين يتجاوز المألوف ويغامر في قلب المستقبل، متوغلاً في المجهول، إنه فن قائم بذاته، دائم التحول والتجاوز، يخترق مساره ضد التيارات السائدة بصعوبة شديدة، ونادراً ما يظفر بقبول المتلقين دفعة واحدة وهو يثير توجسهم ويحرك خيالهم ورغبتهم في التجديد باستثمار ما يسمى بجماليات الاختلاف.
ورضوان يؤكد أن الرواية كفن لا ينقطع عن التجريب لأنها ذات حرية تتضمن الرغبة والشهوة والنشوة والصبوة وهنا تكمن قوة اللون الأحمر، وهي تؤسس لقوانين ذاتية وتنظر لسلطة الخيال، وتتبنى قانون التجاوز المستمر الذي ينهض على مجموعة من الخيارات الواعية المتعمدة، التي تقلقل طمأنينة القارئ المعتاد على الحبكة التقليدية، والشخصيات الواقعية، لكنها تقوم قبل كل شيء على التجريب ولذلك فهي ترفض أي سلطة خارج النص[11].
وبالعودة الى المتغير التاريخيلا يمكن تحديد نقطة المحرق مع تداخل الأمكنة والازمنة واكتشاف الهدف والغاية والتطلع، دون التعايش مع السرد، بوصفه عامل تأثير في معالجة الوقائع بحيث تشعر ان الرواية ضمن الحد الشكلي والانطباعي الاولي هي رواية مدحورة[12]، ومدمجة مع الكلاسيكية ولكنها تختلف في بنيتها البنيوية عن ذلك كلياً.
الناقد محمد خضير يرى أن الرواية المدحورة (المهزومة) ورثت سلطة الاسم الرمزي، من الرواية الكلاسيكية، لتنهي تاريخاً طويلاً من البناء التخييلي، الصرف لشخصيات لا وجود حقيقياً لها في الواقع، وتتسلح به لتجمع أسماء الأرواح الغائبة، في روح الروائي، كي تستمر حياته، حتى نهاية الرواية، وتعيش بعدها، إن استعمال أسماء شخصيات حقيقية بمصاحبة أسماء الشخصيات متخيلة في الروايات المدحورة يشير الى اختفاء سلطة الاسم الغائب وراء حياة، الاسم المعلوم للتأثير في سلطة الروائي وعمله[13].
نزع هُوية المؤلف عن النص، تجرد هذه النظرية النص، من أصله وتسلخه عن ماضيه. إنكار لخصوصية العمل الأدبي حيث هُناك من أشار إلى أنّ نظرية موت المؤلف خطيرة، فهي ليست مجرد نظرة لغوية، إنّما تحمل أبعاداً أيدولوجية. يتخللها تفكيك القيم الإنسانية حيث لا يُمكن الفصل بين النص والمؤلف، فهما يُكملان بعضهما البعض. الفصل بين الذات والموضوع، فالذات تُمثل اللغة، والموضوع يُمثل النص، وكلاهما عنصران مهمان من عناصر العمل الأدبي. التنازع بين المادي، والروحي، حيث تُروض هذه النظرية على القطع والفصل، والقسم المشترك الاعظمي الانا العليا.
ويؤكد “خضير” تقع ممارسة الرواية بين حدي الوعي والتجربة (الوعي باعتباره ادراكاً لقوانين الرواية، أو وعياً بضرورة الرواية، التجربة باعتبارها مادة الرواية الهيولانية)، لكن الوعي قد يخون التجربة في لحظة الإنجاز الفعلي عندما يثق الروائي كثيراً بقوانين الرواية وقواعدها، فتصبح الرواية شكلا من أشكال الخيانة، خيانة الوعي لتجربة الكاتب. من ناحية أخرى، قد يقع الروائي في فخ “القوى الخفية” او “القوى المرجعية” التي يستند إليها في ممارسة العمل الروائي. وأي روائي لم يقع ضحية لأحبولة القوى المسيطرة على تجربته المخذولة؟[14]…
وبالسياق التطبيقي للرؤية النقدية يقيناً ان المؤلف هو صاحب هندسة عمله ولا يجب ان يترك خيوط الرواية وشخصياتها بعيدة عن التوجه التخييلي له، ويربط تلك الأحداث بخيط سري واحد، في اللغة السردية، التي طالما تمكن من تفجير بركان جمال اللغة، ووضع عنصري الإدهاش والإبهام، في البحث بمكنوناتها، فإن الوقوف على نص الرواية، يدعم ما رانت إليه الدراسة في النص الأدبي والقيم الاجتماعية.
ورد ضمن نص الرواية وفي الدرجة الثانية عشر منها عنوان “ورَفْرَفَت الفراشة” تقول فيه:
حرّروني، وريتّا لم تردّ!
تدخّل العالم من أجلي، ومحمود لم يردّ!
العالم السّافل، الذي يأكل أبناءه!
لم يعد هنالك قيمةٌ لأيِّ شيءٍ، لا للموت، ولا للحياة، ولا للتّاريخ، ولا للانتصارات، ولا للهزائم، كان جسمي يحتفل، بنشوةٍ سحريّةٍ، لقد اكتفيت من الدّنيا باحتضانها، طيّ ذراعيّ، ما أتعس الإنسان!، يصارعُ اليقين دهراً، وكلّ ما يلزمه، ثانيتان من التّماهي، تؤكّدان وجوده، يفجؤه العذاب، فينشقُّ عن أعذب ماءٍ، من نبعةِ روحه، أفضيت لها بسرّي، مختصراً بكلمةٍ واحدةٍ، ليس مهمّاً إن سمعَتها، ما يهمُّ أنّي… قلتها.
تركوني، وأعادوا جوّالي، مفرّغاً من الصّور، من هم؟!، بماذا يتاجرون؟!، مع من؟!، ضدّ من؟!، وعلى ماذا يتسابق البشر؟!، وأيُّ شكلٍ من الحروب لم يُخض بعد؟!، الرّجل الذي فعسني في بطني، زمجر متوعّداً: ” إن لم تختف اليوم، فسأذبحك غداً”
من هنا نصل ان أبو محمود عالجت القيم بالنص الرشيق، واللغة المبسطة، في اختيار المفردات والتعابير، وهو مدلول اللون الأحمر الماجنتة، الذي يحمل ازهار الربيع وحركة الفراشات نحو المستقبل، وهي تطرح معالجة القيم المباشرة، من خلال المضمر الكائن في قصدية النص الأدبي، دون الملاحظة بترك تأثير القيم على المتغير التاريخي في النص الروائي، ولعمري هي سابقة في السرد الروائي وتقنيته الفنية، من حيث الزمن المستمر، والخط الزمني، الذي لاحظت فيه الخط الزمني النفسي والاجتماعي والسياسي والثقافي، ومنحت الوقوف لإطلاق حكم القيمة، مرجحة كفة ما أرادت، بإتقان، في معالجة النص، وحسن استخدامه بقصدية دلالية لنص معاصر.
* اللغة عنصر تشويق وجذب المتلقي:
المتتبع للمشاهد الاثنا عشر في مضمون الرواية، يرى ودون سابق إنذار لنفسه عنصري الرابط والتعالق، في متن الرواية، بدءً بالعتبة النصية، وصولاً للنهايات، والسؤال لماذا اختارت عنوان في بادئ العمل “فهرست الأحمر” وفي نهاية الفهرس “تدرجات الأحمر”؟
ما الرابط في ربط البداية بالنهاية؟
قد تكون قوة جذب سردي من خلال العتبة النصية، أم هو التقاء نقطة البداية مع النهاية من جانب الوحدة الشعورية المتكاملة لنقطة الدائرة؟
أم هو عبور المشاهد من خلال التقاط أنفاس المتلقي، والإصرار عليه للمتابعة الحثيثة، رغم تسابق الزمن، والانتقال السريع في عصر روموكنترول التقني؟
والأهم الغاية والهدف من تدرج اللون الأحمر، وتناقض الواقع المعيش في طبيعة اللون ودلالته؟
الأمر يحتاج إلى وقفة مع الذات أولاً، والعودة الى المربع الأحمر المتضمن طبائع الأمور في انتاج القيم الاجتماعية، في البحث بعلم اللون وكيف يمكن للون الأحمر أن يكون عامل جذب في السرد الروائي، وهو توظيف جديد وتجريبي في عالم الرواية، فهو معروف بتعدد رمزيته، إذ كثيراً ما يستعمل في الجمال، وقد تم توظيف ذلك في السياق النصي للرواية، عبر مشاهدها اثنا عشر، باستخدام التماثل التفاضلي باللون، مثل لون التوت الشامي، وهو يرمز بدلالته إلى الزمكاني، ولعل الجامع لهؤلاء خيطها السري السحري، وفق التصنيف الواقعية السحرية لطبيعة الرواية، إذ جمعت الكاتبة بين أقصى الجمال وأقصى العنف (أي بين النار والهواء) برؤية حداثوية بعملية تعالق بين الماضي والحاضر، وما تعيشه البشرية من تناقضات إنسانية وواقعية، يقينا أن السعادة ليست واحدة وثابتة، وأن لها تدرجات كاللون الأحمر، والحياة بتدرجاتها وارتقائها نحو السمو والانعتاق، ما هي إلا حالة من تصوف الوجداني، تحتاج إلى تدرج في الارتقاء والانعتاق الذاتي، للوصول إلى الهدف المنشود…
ولابد من التأكيد على القيم الأدبية في النص وليس فقط القيم الاجتماعية، بحيث أشار الناقد حنا عبود [15] أن القيم الأدبية هي قيم معنوية، فالوقوف إلى جانب المظلوم قيمة معنوية، ولكن هناك لعبة أدبية هي لعبة الشكل، فهذا قد يختار الشكل المسرحي لإبراز هذه القيمة المعنوية، وآخر يختار الحكاية والرواية، وهناك اشكال كثيرة تصل الى مذكرات ورسائل.
وما طرح في رواية “فهرست الأحمر” يدخل في منظومة متكاملة بين القيم الاجتماعية والأدبية معاً، والانزياح الدلالي المتوافق مع المضمون الحسي الجمالي النفسي للعمل، ويكمن ذلك في مشهدية التعايش والثبات على مكونات شخصيات وأبطال الرواية، دون ان ينقطع حبل السرد المتواصل، بين الدرجة الأولى والاثنا عشر الباقية، بحيث عالجت ذلك من بداية الدرجة الأولى ريتا فابينا وصولاً إلى “ورفرفت الفراشة” بحيث نرى كيف تختم عملها الروائي بقولها[16]:
“مضيت، تعثّرت، تخيّلت منظر الدّم، ولونه، فتذكّرت ريتا، من فور عودتي، سأرجو محموداً كيما يفكّر مجدّداً، شكوكي تتكاثر حولها، ليست بريئةً، حتماً، من كلّ ما حدث، ولربّما دبّرت ذلك كلّه، سأعتذرُ له عن حسن ظنّي بها، كنت أحسبها براءةً خالصةً، جهودها الإنسانيّة في نصرة المظلومين في العالم، لم تكن طفرةً ملائكيّةً، وإنّما كانت خبثاً مقطّراً، وإلّا فلماذا لا تردّ!، لماذا تتهرّب؟!، دفعتني إلى المجيء دفعاً، ناصرتني لفضح قبح العالم، ضمّتني إلى منظّمتهم، لأحفظ معهم إرث بلادي، فإذا بها تتلاعب بي، تتلاعب بنا، أنا، وصديقي العاشق الطّيّب.
بمشقّةٍ، وصلت إلى بيت نسمةٍ، وقفت تحت شبّاكها، الموصد، كمثل حكايةٍ مطويّةٍ، فكّرت فيها وضحكت، أغمضَت عينيَّ، قليلاً، كيما تبتلعانِ الغلالة الفائضة، ثمّ دفعت الفراشة في شقٍّ، هناك، وكمن يضع وردةً على قبرٍ، بكيت، فارتجف اسم ماوية على شفتيّ، لم أكد أتماسك، حتى أجلت ناظريّ على حيطان الدّار، وبغتةً، اصطدم بصري ببقعة دمٍ، بقعة داكنة، وكبيرة، ووحيدة، انتفضَ قلبي مذعوراً، في تلك اللّحظة السّاطعة، تماماً، سمعت صوت خطواتٍ، دانياتٍ، من الخلف، دكَّ أحدهم فوّهةً باردةً، في قحف رأسي، وصاح:
“آن أوان غسل العار يا…. ياااامن”
شعّت في صدري الصّورة الحلم، التي لم ألتقطها، التي لن ألتقطها، ومن دون تفكيرٍ، هصرت القرط الذّهبيّ بين أصابعي، حتّى توحّد، تماماً، بلحمي، ثمَّ بروحي، اكتنزت شهيقاً طويلاً، وبهدوءٍ شديدٍ التفت”…
النهاية المفتوحة التفاعلية المترافقة مع الإيقاع الساكن الهادئ المتداخل مع الحدث، تاركة للمتلقي رسم صورة لبعض القيم الاجتماعية المجحفة بحق الانسانية، منها ما تسمى جريمة شرف. الدال على اللون الأحمر القاني.
وتطرح سؤالاً بأبعاد متنوعة ومتعددة بعد التقنية والعلم المتطور هل عقاب الإنسان للإنسان يتم بهذا الشكل؟
وهل اعتبار القيم حالة مقدسة ليتخلل تفاصيلها الثواب والعقاب؟
أم هو ارتهان للماضي وفق اعتبار “ابن الجوزية” حين يقول:
“ليس أشد على دعاة الإصلاح من عادة تأصلت على أصحابهم فأصبحت لهم سنة متبعة”.
رغم ان تدرج اللون الأحمر واضحاً في شكله ومضمونه للوصول للدلالة والرمز والهدف…
نستنتج أن الاعتماد اللغة كعامل قوي للجذب السردي، هو مؤشر آخر على التجديد والتحديث والتجريب ليس في السرد فحسب بل في اللغة لان الروائية وجدان أبو محمود اشتغلت على اللغة بشكل كبير وواضح بانها عادت إلى أمهات المراجع العلمية في فقه اللغة لتعود ببعض المفردات الى جذرها اللغوي، الأمر الذي أكسب الرواية، عنصري التشويق اللغوي، والآخر الانتزاع من المتلقي الدهشة والاعجاب، في تواتر الأفكار والتخيل بالمحافظة على اللغة الرشيقة.
*تصنيف الرواية:
يحار القارئ لرواية “فهرست الأحمر” في تصنيفها، فهي خارج الرواية الكلاسيكية النمطية لغة وأسلوباً، وهي رافعة في تدرجات الانبعاثات النفسية والتفاعلية بين المؤلف والنص بشكل كسرت قواعد الرؤى النقدية في تشكل مفهوم موت المؤلف، بل ظلت متمسكة بخيوط الأحداث بهندسة وإمعان بوعي فكري في تنوع وتعدد الشخصيات، والقدرة على ثبات الموقف لهم، من جهة والارتقاء، بمستوى المعالجة السردية ثانية، والتنوع والتعدد، في فن ذو ابعاد فكرية وثقافية قائم على فن إدارة التنوع، بوحدة التاريخ بين الماضي والحاضر، فهي وأن جنحت نحو التاريخ، من خلال تعدد الأزمنة والأمكنة، إلا أن الرواية أصرت على الإجابة لتساؤلات وضعتها لنفسها، بجمع التراكمات الفكرية والرؤى المكونة من الحس الوجداني والعاطفي والنفسي والسياسي والاجتماعي، مؤكدة على رفض تكرار الوقائع المعاصرة، والإجابة على أسئلة الواقع المعيش.
يرى الناقد د. عاطف البطرس أن العودة الى التاريخ لا تعني بحال من الأحوال إعادة سرد الحوادث كما حصلت في الواقع، مع ان الرواية من أقدر الفنون الأدبية على تسريد العالم والتاريخ، فنحن لسنا بحاجة على تاريخ يكرر الوقائع المعروفة، والعودة على حاضنة التاريخ لا تقدم جديداً إذا لم تجب على أسئلة الحاضر، لتساهم هذه الأجوبة في صناعة المستقبل بوصفه ماضياً سيأتي[17].
بالإشارة الى ما تتضمنه من فنتازيا وتخييل بواقعية مدمجة، تجعل بالمقابل الجنوح نحو الواقعية السحرية الحاملة لمقومات وكأن الكاتبة ترنو نحو التمرد على واقع الرواية السورية بكسر النمطية والكلاسيكية والتوجه نحو التجريب من خارج الواقع الثقافي المعاصر العربي، لترسي على شاطئ الواقعية السحرية في تصنيف الرواية.
يذكر جيريمي هاوثورن[18] أن الرواية الواقعية السحرية تمزج الفنتازيا بالواقع وترتبط اليوم ببعض روائي أمريكيا اللاتينية مثل غابرييل جارسيا ماركيز وايزابيل اللندي، وكانت قد استعملت لوصف روائيين اوربيين مثل جونتر جراس. وأطلق المصطلح مؤخراً على عدد من الروائيات النساء والنسويات في أوربا، قد يكون تعبير المزج مظللاً، إذ أن الواقعية السحرية تتضمن عادة اقتحام عناصر فانتازية لحبكة او بيئة واقعية، وأبرز ممثلي هذا النوع هي الكاتبة البريطانية انجيلا كارتر، يمكن المجادلة بأن استعمال كلمة واقعية في وصف هذا النوع هو استعمال مبرر، إذ أن وراء كل العناصر الفنتازيا الموجودة في الواقعية السحرية هناك باعث او حافز واقعي: حيث ينصب اهتمام الروائيين في هذه الحالة على استكشاف الواقعية المعاصرة وليس على إيجاد بديل لها.
والسؤال التفاعلي للمتلقي هل نشهد ولادة روائية سورية تمتهن الواقعية السحرية في أعمالها اللاحقة لتقف جنباً إلى جنب مع أصحاب الواقعية السحرية من الروايات النسائية في العالم الغربي؟
الخاتمة:
لقد استطاعت الأديبة وجدان أبو محمود في رواية “فهرست الأحمر” كسر طوق التقليد، والانطلاق بخطوات واثقة نحو الحداثة بجدارة، عالجت قيم متنوعة، مما يعيشه المجتمع من تسامح ومحبة وإخاء، وطرحت قيم سلبية، مثل جرائم الشرف والحب الحرام والتلاؤم مع الجغرافية المتنوعة، من خلال تدرجات اللون الأحمر، وتدرجت باللون الأحمر وفق الرؤية الإبداعية والسردية بالمعالجة في تشخيص الواقع، وهي ذات لغة رفيعة وحبكة فنية متقنة، استخدمت بها تقنية متعددة، تركت تساؤلات ضمن الواقع المعيش، وحمّلت مفهوم النص الأدبي والقيم الاجتماعية، علاقة تفاعلية، لتسهم المتلقي في صناعة القفلات المفتوحة، وحل الإشكاليات الاجتماعية التي يعيشها، لا بل استطاعت ان تتمرد على واقع السرد الروائي، بتجاوز عناصره، من خلال تنوع الشخصيات وتعدد الأزمنة والامكنة، وتسريد التاريخ، بالواقعية السحرية، ولبوس المعاصرة، كما أكدت على رؤية مفادها، اذا لم نستفد من التاريخ في المعاصرة، لا يمكن أن نعترف بمقوماته وصنائعه، والتنكر للعلاقة به انتمائياً ووجدانياً، وأشارت للانبعاثات النفسية والوجدانية والتحاليل في تركيب في ارتقاء الشخصية النفسية والإنسانية رغم اختلاف البيئة الزمكاني والاجتماعي والفكري والسياسي عبر تدرج اللون الأحمر الحامل للعتبة النصية، إلا أنها حملت النص السرد الروائي، إضافة إلى اللغة، قضايا اجتماعية وسياسية وفكرية ثقافية، فهي رواية تسد فراغاً في المكتبة العربية وتشكل رؤية تطوير، ضمن تشكيل الحركة الثقافية العربية في عالم الرواية العربية عامة والسورية خاصة، وتشهد ولادة روائية سورية تقف جنباً إلى جنب مع الروائيين الغرب في رواياتهم المركّبة بعوالمها النفسية وواقعيتها السحرية.
المراجع:
– صابر عبيد، د. محمد، العنوان دالاًّ شعريّاً – من منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة – دمشق 2022
– مبادئ النقد الأدبي دراسة أدبية المؤلف أي. ريتشاردز – ترجمة د. إبراهيم الشهابي- منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية عام 2002
– إبراهيم برهم، د. لطفية – دراسات في نقد النقد – الصادر عن دار الينابيع عام 2009
– فضل، صلاح، شفرات النص (بحوث سيميولوجية في شعرية النص والقصيد)، دار الفكر للدراسات والنشر القاهرة ط1 1990
– المسدي، عبد السلام: الأسلوبية والأسلوب، دار سعاد الصباح، الكويت ط 4 1993
– رضوان، محمد عضو اتحاد الكتاب العرب – التجريب وتحولات السرد في الرواية العربية- الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2013
– د. الموسى، خليل، “ملامح الرواية العربية في سورية” الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2006
– أبو محمود، وجدان، ِ “رواية” فهرست الأَحمر “طقوسٌ غابيّةٌ للونٍ بدائيٍّ” الفائزة بالمرتبة الأولى في جائزة حنا مينة للرواية العربية عام 2023 وزار الثقافة السورية.
-خضير، محمد، السرد والكتاب- كتاب صادر عن مجلة دبي الثقافية الإصدار 36 عام مايو 2010
– عبود، حنا، من تاريخ الرواية، دراسة صادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 2002 ص 27
– عطا الله، د. عاطف- الانفتاح الدلالي للنص مقاربات في الرواية والقصة القصيرة- الصادر عن دار الينابيع للطباعة والنشر عام 2009 ص 17-18
– جيريمي هاوثورن – مدخل الى دراسة الرواية- ترجمة الأستاذ الدكتور نايف الياسين– الصادر عن مؤسسة النوري للطباعة والنشر والتوزيع عام 1998 ص 58
[1] صابر عبيد، د. محمد، العنوان دالاًّ شعريّاً – من منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة – دمشق 2022 ص4
[2] نفس المصدر السابق
[3] [3] مبادئ النقد الأدبي دراسة أدبية المؤلف أي. ريتشاردز – ترجمة د. إبراهيم الشهابي- منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية عام 2002 ص27
[4] إبراهيم برهم، د. لطفية – دراسات في نقد النقد – الصادر عن دار الينابيع عام 2009 ص 105
[5] فضل، صلاح، شفرات النص (بحوث سيميولوجية في شعرية النص والقصيد)، دار الفكر للدراسات والنشر القاهرة ط1 1990 ص 56
[6] إبراهيم برهم، د. لطفية – دراسات في نقد النقد – الصادر عن دار الينابيع عام 2009 ص 111
[7] المسدي، عبد السلام: الأسلوبية والأسلوب، دار سعاد الصباح، الكويت ط 4 1993 ص 80-81
[8] رضوان، محمد عضو اتحاد الكتاب العرب – التجريب وتحولات السرد في الرواية العربية- الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2013 ص 8
[9] د. الموسى، خليل، “ملامح الرواية العربية في سورية” الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2006 ص 27
[10] أبو محمود، وجدان، ِ “رواية” فهرست الأَحمر “طقوسٌ غابيّةٌ للونٍ بدائيٍّ” الفائزة بالمرتبة الأولى في جائزة حنا مينة للرواية العربية عام 2023 وزارة الثقافة السورية. ص 12
[11] رضوان، محمد عضو اتحاد الكتاب العرب – التجريب وتحولات السرد في الرواية العربية- الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2013 ص 8
[12] هو مصطلح تسمى الرواية المدحورة او المقهورة او المقموعة وتستخدم استخداماً تمثليا ساخرا ضمن الأسماء المجردة وانتشر هذا المصطلح في خمسينيات القرن الماضي.وفق ما ورد في السرد والكتاب لمؤلفه محمد خضير صادر عن مجلة دبي الثقافية الإصدار 36 عام مايو 2010 ص 38
[13] خضير، محمد، السرد والكتاب- كتاب صادر عن مجلة دبي الثقافية الإصدار 36 عام مايو 2010 ص 39
[14] نفس المصدر السابق ص 43
[15] عبود، حنا، من تاريخ الرواية، دراسة صادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 2002 ص 27
[16] أبو محمود، وجدان، ِ “رواية” فهرست الأَحمر “طقوسٌ غابيّةٌ للونٍ بدائيٍّ” الفائزة بالمرتبة الأولى في جائزة حنا مينة للرواية العربية عام 2023 وزار الثقافة السورية.
[17] عطا الله، د. عاطف- الانفتاح الدلالي للنص مقاربات في الرواية والقصة القصيرة- الصادر عن دار الينابيع للطباعة والنشر عام 2009 ص 17-18
[18] جيريمي هاوثورن – مدخل الى دراسة الرواية- ترجمة الأستاذ الدكتور نايف الياسين– الصادر عن مؤسسة النوري للطباعة والنشر والتوزيع عام 1998 ص 58