قراءة في رواية البراري لمحمد رضوان

معين العماطوري
معين العماطوري

د.اسعد منذر

كاتب وطبيب

تسرد الرواية أحداثاً وقعت في جبل العرب، منطلقها قرية كفر العسل ، حيث مقر إمارة الجبل وأميرها الشاب (شهاب) الذي وصل إلى سدة الإمارة بعد تدبير مقتل منافسه وشقيقه (اسماعيل)، فإلى القصر في كفر العسل تصل قوةٌ عسكرية فرنسية وتتخذه مقراً لقيادتها قبل أن يضيق الأمير ذرعاً بهم ويأمرَ بانتقالهم لمكان آخر في القرية ، مهمة القوة الفرنسية تلك تتلخص بملاحقة الثوار الذين يقودهم ( شمس ) .

تصور الرواية أحداث الفترة التي تراجعت فيها الثورة السورية الكبرى عسكرياً، وانتقالَ الثوار الى الأزرق، وتصف معارك عديدة في هذا السياق نلمس من خلالها وحشية المستعمر وبسالة الثوار وشجاعتَهم واستعدادَهم للتضحية، في الوقت الذي يحيك فيه الأمير الأحابيل لتثبيت سلطته في صراع داخل الأسرة الحاكمة التي يطمح بعض أفرادها لنقل مقر الإمارة الى عاصمة الجبل، وهو مستعد لكل تآمر ضد الثورة والثوار في سياق رقصه على الحبال بين الفرنسيين والانكليز، يميل لهذه الجهة أو تلك وفق رؤيته لموازين القوى وتيارِ الغلبة، تسير بنا الرواية لنشهد انتهاءَ الثورة عسكرياً وحياةَ الثوار في صحراء وادي السرحان، واستسلامَ الكثيرِ من أهل الجبل على قاعدة العين ما (بتقاوم مخرز) ومن ثم تصل بنا الرواية الى  مقتل منصور ابن الأمير شهاب وانتحار بندر عشيقتِه اللدود

العنوان : 

العنوان جاء معبراً سواء بدلالته المباشرة، باعتباره الفضاءَ الروائي، أم بإسقاطاته التي تشير إلى مسرح الثورة، وربما تصل إلى الوطن كلِه، وسواء قصد الكاتب أم لم يقصد فإن من معاني البراري، جمع بريّة : هي الأرض التي لم يغير فيها الانسان شيئاً بما يشير للأصالة والخصب.

الإهداء :

 إلى أنس …البذرة … والنسغ …. السنبلة، يبقينا في دائرة البراري ومفهوم الخصب والنماء والاستمرارية.

شخصيات الرواية

تعتبر شخصية شهاب الشخصية الرئيسية، ولا نستطيع إلا أن نلمح شيئاً من الدلالة الرمزية في هذا الاسم، شهاب هو ذاك الضوءُ الذي يلمع عالياً لفترة وجيزة ثم يخبو ويسقط ، والكاتب يصور لنا شخصية شهاب بطريقة الوصف المباشر على لسان الراوي فيقول: ( قامة طويلة ممتلئة ، وجه مستدير، أنف بحجم بيضة أوز … وغضب حزين بحجم جبل)ص 6، … ( كان كل شيء فيه ينم عن مهابةٍ وكبرياءَ غيرِ ملفقين، ينظر بعينين يقظتين دوماً دون تكلف، إنسان قوي البأس، واثق من نفسه، منتصر عليها، لا بل يمتلك الانتصار على كل شيء، تطيعه حتى شعراتُ ذقنه، إن قال لها لا تنبتي، فلا تنبت ) ص 45، كما يصور الكاتب الشخصية تلك بطريقة المونولوج الداخلي فها هو شهاب يرى اسماعيل في الحلم ويعيش لحظة إطلاق النار عليه ومقتله ص 25، فصار يعاني من خوف مزمن وسأم وتقزز وكراهيةٍ لشيء غيرِ معلن ، أو يصفه على لسان شخصية أخرى كما في قول منصور ابن شهاب:(ما بعرف كيف مركب هالزلمي، مرة بيوزع قمح وشعير لكل المحتاجين بسفربرلك، ومرة بيحرم الارض العطشاني من قناة المي، ومرة بعاقب زلمو لأتفه الأسباب، ومرة بيطنش عن جريمة قتل أو اغتصاب) ص 183،شخصية شهاب لا ينطبق عليها وصف الشخصية النامية فخصالها واضحةٌ منذ البداية، ولا يمكن القولُ إنها شخصية ثابتة فمواقفها متحولة متغيرة وأحياناً مفاجئة، ربما يصح وصفُها بالشخصية المدورة، وفيها شيء من الشخصية المرجعية الرمزية.

شخصية شمس:

بالتوازي مع شخصية شهاب تبرز شخصية (شمس) بكل ما لهذا الاسم من دلالة رمزية، إنه النور الساطع الراسخ والثابت، وعلى الرغم من أن هذه الشخصية لم تكن فاعلةً في صياغة الحدث الحكائي بطريقة مباشرة، لكن وجودها كان طاغياً على كل تفاصيل الرواية، فهذا الجنرال قائد الحملة يقول: إن الأفاك شمس في عصيانه على فرنسا يمهد لخراب بلادكم ص8، وشخصية شمس كانت محدداً أساسياً لسلوك شهاب ومواقفه والذي كان همُه الأولُ هو كسب المعركة ضد شمس، يقول شهاب بضيق ونزق: (عرضنا عليه كل شيء…كل شيء…مال…وجاه. وأرض .. كل شيء والبني آدم ما كان يقبل) ص 6، ويتضح أن (الشيء الاهم أمام شهاب هو أن يبحث عن مفاتيحَ انتصاره على شمس، وصحة موقفه ونظرته، لتمكنه من العودة لتلك المتع الخفية في الحياة ) ص127 كما أن الرواية لم تبخل على القاريء بتوضيح معالم هذه الشخصية في عدة مفاصلَ هامةٍ من الحدث، فقد جاء في وصفه: قليل الكلام، رأسه بئر من الأسرار، ولا أحد يعرف كيف يفكر إلا في اللحظات الحاسمة ص132، وجاء في وصفه أيضاً: “ظل القائد صامتاً طوال الليل يلعق حزنه الكثيف على المقداد ورفاقه، تعلقت عيون الرجال بشفتي القائد الغليظتين، ووجهه الوقور العابق بالسمرة الداكنة ، فبدا أكثر حزناً وكبرياء” ص 169، (صار شمس كما في الأساطير نصفه إنسان ونصفه جبل أضفى عليه بعضَ ما فيه من قسوة وإباء وجبروت، وأخذ منه مقابل ذلك بعضاً من روحه وحلمه وحكمته، حتى بدا الجبل روحاً إنسانية يتنسم الحرية ويتحدى التتار الجدد) ص71، نستطيع أن نصف شخصية شمس بأنها شخصية ثابتة وفي الوقت نفسه شخصية مرجعية رمزية ، لقد كان شمس بطلَ الرواية غير المتوج.

وهناك شخصيات مساعدة، اذ توجد عدة شخصيات في الرواية ينطبق عليها وصف المساعدة أكثر من الثانوية، ويمكن تصنيفها إلى شخصيات موازية لشخصية شهاب ومساعدة  له مثل: هزاع الهزاع ابن زليخة، فاضل الملقب بالمستشار، وشخصيات مضادة مثل شخصيات ليندا– زمرد – منصور – بندر – طلال ، وهذا الأخير شخصية ثابتة مسطحة واضحة المعالم متوقعة المواقف.

البعد الزماني والمكاني:

الرواية تُدخل القارئ إلى البيئة المكانية بذكاء واحتراف وسلاسة لافتة ، ويتضح سريعاً أن الكاتب يمتلك قدرة متميزة على وصف المكان وصفاً دقيقاً ، ويرسم بالكلمات لوحة جميلة ممتعة لكل مكان مرت به أحداث الرواية ، سواء كان مكاناً مغلقاً أم مفتوحاً ،  ولا يمكننا أن نعتبر أن اختيار الكاتب لتسمية (كفر العسل ) قد جاء صدفة ، فكلمة عسل التي تعني تلك المادةَ الغذائيةَ المعروفة ربما تشير لحلاوة السلطة والنفوذ وتأثيرِها على النفوس ، والكلمة تعني في أحد معانيها أيضاً : حركةَ الماء واهتزازَه ، وهل من حركة وصخب أكثر مما هو موجود في كفر العسل وقصر الأمير ، ولها معنى آخرُ وهو تلوي الرمحُ بسبب ليونة معدنه ، وهل من تلوٍ وتلونٍ أكثر مما أبداه الأميرُ شهاب المراوغ ، ومن معاني العسل أيضاً ما أتى من شهر العسل ، والكاتب أتخم روايته بوصف كثير من اللقاءات الحميمية تلك . والمكان في الرواية لا يقتصر على أنه حيز الحدث وفضاءُ الحكاية ، لكنه يرقى لأن يكون شخصية هامة من شخصيات الرواية ، فبدءاً من العنوان يتوقع القاريء أنه أمام رواية واقعية ستطغى عليها روح البرية والطبيعة ، إن وصف البراري بجبالها ووهادها وسهولها وبواديها وما فيها من أوابدَ وآثارٍ وذكريات يجعلنا لا نستغرب أن تكون هذه الأرض حاضنة للثورة ورفض التتار الجدد ، وعندما نقرأ عن رحلة اسماعيل في البوادي والخرائب وقوله للغزال الذي اصطاده : إن موتك هو موتي ص16 ، ثم عن معركته مع الضباع ، ندخل تلقائياً في أجواء شريعة الغاب وقوانينها ، ليأتي مقتلُ اسماعيل في سياقه غير المفاجئ ، واللقاء الفاتر المتوتر بين الأمير والجنرال كولييه وعساكره ، ينسجم تماما مع وصفه القصر- مكان اللقاء –  بقوله : ( بناء حجري بطابقين … يحمل هيبة التاريخ ، وعدوانية الانسان … وبقايا السور القديم … كان هناك بشر يحملون الفوانيس المضاءة فبدت كل الوجوه صفراء شاحبة  بلون الوحل )ص44

      أما الزمان فقد حدده الكاتب عبر إشارات ودالّات غيرِ مباشرة  في سياق الحدث ، وهنا من المُهِم الإشارة إلى أن الحدثَ الروائي  في الأساس حدث متخيل ، غيرُ مُلزم بمطابقة الواقع ، وإن كان يقترب منه قليلاً أو كثيراً ، مما يسمح بإسقاطاتٍ تتماشى مع الواقع ، لكن تحديدَ زمنِ الرواية بدقة عالية ، يضيق المسافة بين الشخصية الروائية المتخيلة والتي يستطيع الكاتب أن يحمّلَها الكثير من الصفات والمواصفات وبين الشخصية الواقعية التي يسعى القارئ في مثل هذا النوع من الروايات لأن يجسدها في ذهنه من خلال أحداث الرواية ، وهذا التحديد الدقيق يجعل القارئ مشوشاً فيما يحاول إسقاطه على الواقع وتتبع تخيله لشخصيات الحدث ، ربما لا ينطبق ذلك على القارئ الذي لا يعرف الأحداث الواقعية التي تشير إليها الرواية ، لكن من يعرف تلك الأحداث يجد نفسه مدفوعاً  ليطابق بعض شخصيات الرواية مع شخصيات حقيقية ،  خصوصاً شخصية الأمير شهاب الممتدة من ما قبل سفربرلك إلى زمن الثورة

السرد : اعتمد الكاتب في الأغلب أسلوب الراوي الغائب ( مع ضمير هو ) وفي بعض الأحيان كان يعتمد الحوارات المشهدية ، وفي أحيان أخرى استعمل أسلوب الراوي المشارك أو الشاهد ( مع ضمير أنا ) كما في حديث حمزة الديك ومذكرات الكابتن كولييه ، وفي كل هذه الحالات كان الانتقال سلساً ومبرراً وظلت شخصية الكاتب بعيدة عن شخصية الراوي….. كان أسلوب السرد جميلاً ممتعاً في عموم الرواية ، أظهر قدرة الكاتب على وصف دقائق الأمور والدخول إلى أعماق النفس الإنسانية في حوارها مع ذاتها وتناقضاتها الداخلية ، كما في  وصفه مشهد إطلاق اسماعيل النار على الغزال ، ووقوفِ الصياد والطريدة أمام بعضهما البعض ، وشبحِ الموت يتنازع مع رغبة الحياة ، ليصف شعورَ الحزن والندم في نفس اسماعيل قائلاً بكلام معبر : (لينفجر الدم كنافورة مياه ، رشقت حجارةَ المكان والثيابَ ولطخت ثنايا الروح التي بلغت الندم على ما جنت يداه ) ص 18  ، وكذلك وصفه صراع المشاعر عند الأمير في أعقاب مقتل أخيه اسماعيل  بالقول : ( كآبته غير المفسرة ، وكراهيته لشيء غير معلن ) ص 12  ، وفي وصفه المكان بطريقة جميلة يقول ( عند حافة بير البنات ، الذي تظلله شجرة حور يتيمة ، وتطوق فمه حجارةٌ مصقولةٌ كالرخام ، حزت صدرها الحبالُ التي تحمل الدلاءَ ، صعوداً وهبوطاً ، ترد إليه في المغيب الصبايا ، ينتشلن الماء وقلوبهن تخفق بكلمات الغزل الهش أحياناً ، وهم عائدات إلى بيوتهن ينتظرن الغد بفارغ الصبر ) ص 135  وفي السياق ذاته يقول : ( يترقب عبور الصبايا ، يحملن جرار الماء ، وحمرة الغسق تسيل على القدود ، فيشتعل عشبُ الطريق ، وتذوب الحجارةُ تحت أقدامهن ولهاً ) ص 171

   وبتعبير جميل يصف لحظاتِ الصمتِ القاتلِ فيقول : ( استأذن سنونو الصمت بالدخول ، فرفرف بأجنحته في فضاء الغرفة ثم طار ) ص 186  ، كذلك لا يمكن للقارئ أن يتجاوز جمال حوار منصور وندى ص 188   والتعبير المبتكر ( السرور العابس ) لوصف حالة الفرح المخفي التي بدت على وجوه الرجال  ص 197  

السرد الدلالي :

     الآراء المختلفة التي تطرحها الرواية جاءت في سياق منطقي على لسان شخصياتها ، لم تظهر فيها شخصية الكاتب بطريقة مباشرة ،  فالكاتب يتناول الأحداث التاريخية المعروفة عبر رؤية سردية مختلفةٍ عن المعتاد ، فقد نظر إلى الأحداث من الداخل ، من قصر الأمير وأوساط الأسرة الحاكمة ، ومن بين عامة الناس ، وكأنه أراد أن يوضح أن الصراع الأساسي كان بين إرادتين ، إرادة المستعمر الذي يصر على إخضاع الأرض وأبنائها ، وإرادة الإباء والكرامة عند عامة أبناء الأرض ، وبين هاتين الارادتين تبدو رغبات وطموحات الأمير وأسرته  الحاكمة ومن سار في فلكهم متأرجحةً متذبذبة ، فكثيرة هي الدالات الرمزية في النص التي تشير لهذا الصراع المحتدم ، من ذلك ما جاء في الصفحة 28 : ( بدا وجه الكابتن غريباً شاذاً ، وسط سحر الجبل المرتعش وألقه ) ، وكذلك فإن الراعي الذي عرفنا فيما بعد أن اسمه طلال يرفض الاستجابة لطلب الكابتن بالنزول إليه ص 29  ، وعندما يهرب ، فإنه يهرب نحو القمة ، ( وظلت السفوح تدوي برنين الأجراس وصدى ضحكةِ الراعي ، كأن الجبل هو الذي انفجر ضاحكاً ) ص30  ، ليعود هذا الراعي الذي تصوره الرواية بأنه عريض الكتفين ، مكتنز البنيان ، فارع الطول كعمود حجري ، له شعر فاحم ، مسلح بسكين ، يعود ليظهر من جديد أمام الكابتن وقوته العسكرية ، وسط الأوابد والآثار ص31  ، في دلالة واضحة على الأصالة والعراقة والامتداد التاريخي للناس مع أرضهم ، وفي هذه اللقطة أيضاً يكون طلال في موقع مرتفع ينظر إلى الكابتن من الأعلى للأسفل بينما يضطر الكابتن أن ينظر إلى طلال من الأسفل للأعلى ، في رمزية لا تخفى على أحد . دون أن ننسى رمزية القول بأن طلال – الطفل الرضيع – قد أرضعته أكثر من امرأة ورعته أكثر من فتاة ، في تحدٍ لأوامر الأمير يحيى والد شهاب والذي تصوره الرواية أنه كان في زمن الأتراك ، وها هو طلال اليوم ابن كل الأمهات اللواتي أرضعنه ، يتصرف كما يجب بكل إباء وعزة نفس

   وعن موقف الأمير النفعي والمصلحي ، توضح لنا الرواية أن الأمير لم يزعجه في تعليمات وتضييقات الفرنسيين سوى تقلص وارداته المالية ص58 ، وهو كذلك صاحب سجل في اقتسام الآثار مع قاص الأثر فهد العبد الله ، ثم تواطأ مع المستعمر للسطو على ما تبقى من آثار ، بما يعنيه ذلك من استعداده للتآمر على تاريخ الأرض ومن عليها ،  فقد جاء في الصفحة 212 القول : ( بدا رجل الخرائط ينقل كنوزه بشكل جنائزي مهيب كأن كفرَ العسل تشيع جثمان أبنائها الأوائل من جديد ) ، في إشارة لقيمة هذه الآثار ورمزيتها للبلد

 وحتى ابنه منصور من زوجته الأولى يستنكر عليه ( استضافة التتار الجدد في كفر العسل ، وتقديمَ الطاعة الى دولة الانتداب ) ص 82 ، ويضيف منصور مخاطباً والده الأمير على لسان عمه ، فيما يؤشر على صراع المصالح داخل الأسرة الحاكمة ، ( عمي متعب قال : فرنسا عم تضحك عليك ، والانكليز عم يضحكوا على غيرك ، والضحية هو الجبل ) ص175  ، ليجيب الأمير مخاطباً بندر مختصراً الجبل في شخصه ، فيقول : أنا بعرف مصلحتي ومصلحة الجبل …. أنا الجبل ص176  

    يؤكد الكاتب في مواضع عديدة أن عامة الناس هم من قام بالثورة وتحملوا أعباءها وقدموا التضحياتِ وعانوا من التشرد والهجيج ، بينما يجتمع الزعماء الدينيين والزمنيين ليصادقوا على الحرم المقترح على قائد الثورة ورجالاتها ،  ( فبصقوا على أختامهم النحاسية والفضية وحرك كل منهم لعابه فوق اسمه ) ص131 وهم في الحقيقة يبصقون على أسمائهم وذواتهم ، كما يحتشد هؤلاء في دار الإمارة في العاصمة خلف الأمير ( بشير ) معلنين الاستسلام والخنوع عبر رفع راية بيضاء فوق سارية يصر الكاتب أن يوضح أنها سارية بيرق مجهول ، أي أنه لا ينتمي لهذه الأرض أو ناسها ، لتكتمل الصورةُ الرمزية والدلالية الرافضة للاستسلام ( بتسرب رجل ناحل كالرمح الى الأمام ، فوثب كما الليث على فريسته ، محاولاً انتزاعها ، إلا أن قبضته شلخت نصف الراية )ص191  ، وكأنها إشارة لعدم حسم المعركة بين التيارين

     الرواية تطرح كثيراً من الأسئلة الصعبة والمسكوت عنها ، وأولها : هل ظلم الفرنسيين كان بالضرورة أشد وطأة من ظلم الأسرة الحاكمة ، فإذا كان الفرنسيون يسجنون في مستودع الفحم ، فإن أقبية قصر الأمير أشد ظلمة وأقسى هولاً ، والتي احتوت لاحقاً أعداداً كبيرة من الثوار ، أضف الى ذلك بئرَ الموت الرهيبَ الذي يرسل الأميرُ إليه من يقررُ هو إنهاءَ حياته ، والكابتن ذاتُه رمزُ القوةِ الاستعمارية يقول عن الأمير : ( كيف ينام في القرية رجل أخرق يابس .. كلما أراد شيئاً مشى إليه على الجثث ) ص260  ، كما تتساءل الرواية عن مشروعية الثورة ضد فرنسا التي تحمل قيم التمدن والرقي ، فهذا ( خطار الصافي ) يسخر من أولئك المجانين الذين تخلوا عن دفء زوجاتهم ، وابتسامة أطفالهم ، ليحاربوا أقوى دولة في العالم ستجلب لهم التمدن والخمر والنساء ص282  ، وعن أسباب فشل الثورة ما جاء على لسان علي سلامة : كل المعارك كانت بنت ساعتها وارتجالية ص296  

    أسئلة كثيرة طرحتها الرواية دون أن يكون لها جواب ، ربما جاء الجواب جزئياً على لسان طلال الذي أقر بأن لا جدوى من استمرار الثورة ولكنه يرفض الخضوع للعدو ، وجواباً على سؤال مضيفه إن كان سيستسلم يقول : موتي أسبق ص299  ، وقبله ما قاله شاب ملثم أمام الجنرال حاكم الجبل : سيظل على حافة الدائرة (المحترقة) شجر ينمو ، ونبات يزهر ، ولن يحترق ص197   ، وفي هذا السياق تأتي الإشارة الرمزية إلى الدماء التي بُذلت دفاعاً عن الأرض فيما كتبه الكابتن في مذكراته قائلاً : بدت الصخورُ مزنرةً بعروقٍ حمراءَ داكنةٍ كأن دماً أو نبيذاً تسرب إلى مساماتها ص269 .

    وفيما يبدو رداً على من كان يراهن على قيم الحرية والمساواة والإخاء التي يحملها الفرنسيون ، جاء على لسان الكابتن أيضاً : من نحن … ولماذا جئنا الى هنا ؟ … إن الجدول العكر الذي ينساب من السين قد ارتفع ماؤه عالياً … حتى غمر الجبال ص274  ، في إشارة لقوى الاستعمار المتعطشة للدماء

       في النهاية يُقتل منصور ابن الأمير ، في سياق يوحي بأنه هو من دبر قتله بسبب شكوكه عن صحة انتسابه إليه ، وما أن ينظر الى الجثمان حتى يرى فيه شبهه وصورته ، في إشارة على أنه قتل ذاتَه وأن سلوكَه المريبَ قد سقط ، خاصة مع انتحار كاتمة أسراره  بندر

اللغة أو السرد اللساني :

    الحديث عن اللغة في الرواية لا يعتبر ترفاً أو تكلفاً كما يراه البعض ، فالرواية أولاً وأخيراً فنٌ من فنون اللغة ، واللغة هي الدليل المحسوس على أن ثمة روايةٍ ما  يمكن قراءتُها ، وهنا أميز بين القول الذي يقابل الكلمة الفرنسية parole  أو speech الإنكليزية ، وبين اللغة التي أقصدها والتي تقابل كلمة langue الفرنسية أو language الإنكليزية وهي تعني النظامَ النظريَ للغة من اللغات ومجموعةَ القواعد التي يجب على متكلمي هذه اللغة الالتزامُ بها ، فحتى مدارسُ النقد التي تركز على سياقات السرد وبنيته لا يمكنها أن تتجاوز اللغة ، فلا سياقاتٍ ولا منظومة سردية من غير اللغة ، صحيح ما قاله ايلي أبي ماضي في أن السر في المعاني وليس في المباني … لكنه أكمل وقال إن المعنى الجميل يستلزم المبنى الجميل ، وإذا لم نحرص على سلامة اللغة في القصة والرواية والشعر، فلا أدري أين سيكون ذلك ؟  

   اللغة في الرواية موضوع البحث ، لغة جميلة ، متماسكة ، الجمل رشيقة ، معبرة ، متينة ، ومن ذلك : (  وما أن أَسدَل الصمت فوقهما مظلته الشفيفة ، حتى مزقها وقع حوافر حصانه الأشهب ، يقوده الفتى الصغير إلى باب الدار بفرحٍ واعتزاز ، فيما قفز طلال فوق السرج بخفة طير ، حرّك لجامَ حصانه، ثم انطلق مختفياً في ضحكة الشمس المشتعلة فوق مهد البراري الموحش )

     في حدود معرفتي اللغوية ، اللغة إجمالاً كانت سليمة ،  وهذا لا يمنع من بعض التحفظات أو الملاحظات :

  • المزاوجة بين العامية والفصحى ، أرى أنها تفيد النص بشكل عام شرط ألا تكون في الجملة ذاتها ، وهذا ما حصل في الرواية ، مثلاً :  – اليوطنان يا سيدتي وجدوه مقتولاً بغرفتو ( كل الجملة فصيحة عدا بغرفتو ) ص 230 –  – قريتنا زغيري لكن بيوتنا واسعة ، واضحة المعالم ( واضحة المعالم فصيحة )  ص 291 ،    
  •  من الأصح عدم تقديم التوكيد بكلمة نفس وذات على المؤكد ، أن نقول : في المكان نفسه وليس في نفس المكان
  • بعض العبارات تحتاج الوقوف عندها والتساؤل حولها ، مثل :
  • تلكأ في الوقوف على قدميه عنوة ص 7 :  –  كيف تستقيم كلمة عنوة التي تفيد الإكراه مع تلكأ التي تفيد القصد والإرادة ؟ وربما يكون الأصح القول تلكأ عن الوقوف ؟
  • حجب الرؤية لديه ص 16 : أظن أن الأصح ( حجب الرؤية عنه )
  •   فجأة ظهرت محاسن من فتحة الباب ، مرحبة إلى درجة الصراخ ، كان النبع شحيحاً ، كأنه في حالة احتضار ، والقناة الصغيرة تغطيها الأوراق ، وأعشاب الخريف تنتظر المطر ، لم يفاجئه عدم وجود فاضل في البيت ص 180 . ( لا أدري ما هي ضرورة الحديث عن النبع والقناة الصغيرة وأعشاب الخريف تمهيداً  لترحيب محاسن وعدم وجود فاضل في البيت )
  • ( كأن كفر العسل تشيع جثمان أبنائها ) ص212 والصحيح جثامين
  • ( أرّقه البرد ، وصوت الكابتن ، ورماه في قاع الظلمة )ص265  وهنا إما أن يقال : أرقه البرد ،وصوت الكابتن رماه في قاع الطلمة ، أو أرقه  البرد وصوت الكابتن رمياه في الظلمة 
  •  : وشفتين تهمسان بشئ يحفر في القلب أخاديد للألم ص 282 ( أظن أن الأصح القول : أخاديد ألم ، فالأخاديد ليست للألم بل بسببه )
  •   ( لم يكترث منصور لدقات قلبه الوجله ، فيما بدا على وجهه المنهك ، ألم جزمته الجديدة الضيقة ، وياقة سترته العسكرية الخشنة  ) ص 326 هل ألم الجزمة هو الذي بدا على وجهه ؟ أم الألم الذي سببته الجزمة ؟

المشاهد الجنسية : جاءت في سياق الحدث الروائي وفي خدمته بشكل عام ، بعضها جاء متعمداً حتى لا أقول مفتعلاً ، لكنها في العموم اعتمدت أسلوب الإيحاء ، وعندما صرّح النص جاء تصريحه رشيقاً مقتضباً ، ولكني أرى أن هذه المشاهد كانت أكثر مما يجب  ( منزلقاً بأصبعه إلى السرة ، نحو ذروة السفح المثلث ، ثم فوهة البركان المشرفة على الانفجار ) ص 95

الخلاصة : الرواية جميلة ومفيدة ، فيها خيال واسع ، صيغت أحداثها بأسلوب جميل ولغة سليمة متينة ، تستحق بجدارة أن يطلق عليها ( إلياذة الجبل ) فقد أحاطت بأحداث فترة مهمة من تاريخ الجبل ، وعرضت مجمل الآراء والمواقف المتناقضة فيما يتعلق بالثورة والنظرة تجاه الانتداب الفرنسي ، وأدوار الشخصيات والفعاليات الاجتماعية المختلفة في تلك الأحداث ، كل ذلك بطريقة روائية ابداعية ، بعيدة عن السطحية والمباشرة  

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *