قوة الإعلام في قوة الكلمة

معين العماطوري
معين العماطوري

غذاء العقول ومحفز السلوك

حسين الإبراهيم

كاتب وصحفي متخصص بالمحتوى الرقمي

ليست الكلمات مجرد وسيلة للتواصل؛ إنها أدوات قادرة على تشكيل عالمنا الداخلي والخارجي. من خلال تفاعلها مع الجهاز العصبي، تستطيع الكلمات تحفيز استجابات كيميائية وعاطفية تُغير من حالتنا المزاجية، وتؤثر على علاقاتنا، وحتى على صحتنا الجسدية.

تأثير الكلمة على الدماغ

أظهرت دراسات علم الأعصاب أن الكلمات تحفز مناطق محددة في الدماغ، مثل القشرة الأمامية الجبهية المسؤولة عن اتخاذ القرارات، واللوزة الدماغية المرتبطة بالمشاعر. على سبيل المثال:

  • الكلمات الإيجابية (مثل “أنت مذهل” أو “شكرًا لك”) تُنشط إفراز هرمونات السعادة مثل الدوبامين والسيروتونين، مما يعزز الشعور بالاطمئنان والتركيز.
  • الكلمات السلبية (مثل “فاشل” أو “لا أستحقك”) ترفع مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر)، مما يُضعف الذاكرة ويُزيد القلق.

في سياق الإعلام:

  • كلمات إيجابية مثل “نجاح”، “أمل”، أو “فرصة” تُحفز مناطق الدماغ المسؤولة عن السعادة والثقة، مما يُعزز الاستجابة الإيجابية لدى الجمهور.
  • أما الكلمات السلبية مثل “فشل” أو “أزمة” فتزيد من التوتر، مما يؤدي إلى القلق وقد يُوجه الرسائل الإعلامية نحو إثارة ردود فعل جماعية.

في تجربة شهيرة أجراها العالم الياباني ماسارو إيموتو، لاحظ أن تعريض الماء لكلمات إيجابية وسلبية يُغير من شكل بلوراته، مما يشير إلى أن للكلمات تأثيرًا فيزيائياً حتى على المادة غير الحية.

أثر الكلمة على العلاقات الاجتماعية

الكلمات هي حجر الأساس في بناء الثقة أو هدمها. وفقًا لدراسة في جامعة هارفارد:

  • الكلمات الداعمة (مثل “أنا أتفهم شعورك” أو “يمكننا حل هذا معًا”) تعزز الروابط العاطفية وتُقلل من النزاعات.
  • الكلمات الجارحة (مثل الاتهامات أو السخرية) تُضعف الثقة وتُسبب انسحابًا عاطفيًا، وقد تؤدي إلى تفكك العلاقات.

على سبيل المثال، الأزواج الذين يستخدمون لغة إيجابية أثناء الخلافات يتمتعون بعلاقات أكثر استقرارًا بنسبة 70% مقارنة بمن يستخدمون النقد اللاذع، وفقًا لعالم النفس جون غوتمان.

عندما تُستخدم الكلمات بوعي وتعاطف، تصبح قوة دافعة للتغيير الاجتماعي:

  • في الأسرة: الحوار القائم على الاحترام يُعزز التماسك الأسري ويُقلل من التوترات.
  • في العمل: المديرون الذين يستخدمون لغة تشجيعية يرتفع أداء فرقهم بنسبة 40%، وفقًا لدراسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
  • في المجتمع: الحملات الإعلامية التي تستخدم لغة إيجابية (مثل “معًا نستطيع”) تُحفز التضامن الاجتماعي، كما حدث في حملات مكافحة الأوبئة.
  • في الإعلام: الإعلام هو الرابط الأساسي للعلاقات الاجتماعية، حيث تحمل الكلمة إمكانات تعزيز الحوار أو خلق النزاعات.
    على سبيل المثال:
  • حملات إعلامية قائمة على مفردات داعمة مثل “التغيير يبدأ بك” تُشجع المشاركة الفعالة والتضامن.
  • بالمقابل، الخطاب العدائي أو التهكمي يُسبب انقسامات ويقوض الثقة.

الكلمات والتفكير الذاتي: كيف يشكل حديثنا الداخلي شخصيتنا؟

الكلمات التي نوجهها لأنفسنا تُشكل الهوية الذاتية وتؤثر على سلوكياتنا:

  • التفكير السلبي (مثل “أنا لا أستحق النجاح”) يُعزز مشاعر العجز ويحد من الإنجازات.
  • التفكير الإيجابي (مثل “أتعلم من أخطائي”) يعزز المرونة النفسية ويدفع نحو التطور.

في تجربة أجراها عالم النفس كارل دويك، تبيَّن أن الطلاب الذين تلقوا تشجيعًا لفظيًا على الجهد (مثل “عملُك الشاق سيُثمر”) تفوقوا أكاديميًا مقارنة بمن تم التركيز على ذكائهم الفطري.

تأثير الكلمات على الصحة العقلية والجسدية

الكلمات لا تؤثر فقط على المشاعر، بل تمتد آثارها إلى الصحة الجسدية:

  • الصحة العقلية: التعرُّض المستمر للكلمات السلبية (كالانتقاد القاسي أو التنمر) يزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق.
  • الصحة الجسدية: الإجهاد الناتج عن الكلمات السلبية يُضعف جهاز المناعة، وفقًا لدراسة في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية.

في المقابل، التأكيدات الإيجابية (مثل تكرار عبارة “أنا قادر”) تُحسن من أداء الجهاز المناعي وتُقلل من معدل ضربات القلب، كما وجدت دراسة في جامعة كارنيغي ميلون.

يتحمل الإعلام مسؤولية كبيرة في اختيار الكلمات وتأثيرها على الصحة النفسية للجمهور:

  • التعرض المتكرر لمصطلحات سلبية قد يُسهم في زيادة معدلات القلق والاكتئاب.
  • بينما الرسائل الإيجابية المُدعمة بإعلانات هادفة يمكن أن تُعزز التفاؤل وتعكس الاستقرار الاجتماعي.

تجربة: كيف غيّرت الكلمات سرعة الوصول إلى الهدف؟

تجربة كلاسيكية في علم النفس تُعرف باسم تأثير الكلمات على الأداء والسلوك، وغالبًا ما تُنسب إلى عالم النفس الدكتور ديفيد سوبيل (Dr. David Sobel) أو باحثين آخرين في مجال علم النفس الاجتماعي.

التصميم:

  • قسّم الباحث طلابه إلى مجموعتين دون إخبارهم بالغرض الحقيقي من التجربة.
    • أعطى لكل مجموعة قائمة كلمات مختلفة:
      • المجموعة الأولى: كلمات إيجابية مثل “النجاح”، “الإنجاز”، “التفاؤل”، “الطاقة”.
      • المجموعة الثانية: كلمات سلبية مثل “الفشل”، “الكسل”، “الإرهاق”، “اليأس”.

المهمة:

  • طُلب من الطلاب المشي إلى مكتب الباحث في مبنى آخر بعد قراءة الكلمات.
    • لاحظ الباحث أن:
      • مجموعة الكلمات الإيجابية وصلت بسرعة وبحالة مزاجية مرتفعة.
      • مجموعة الكلمات السلبية تأخرت في الوصول، وبعضهم بدا متثاقلاً أو غير متحمس.

النتائج:

  • أثبتت التجربة أن الكلمات تُحفز أنماطًا سلوكية دون وعي مباشر من الأفراد.
    • الكلمات الإيجابية عززت النشاط البدني والتفاؤل، بينما أبطأت الكلمات السلبية الحركة وزادت التردد.

التفسير العلمي:

  • التأثير اللاشعوري (Priming Effect):
    • الكلمات الإيجابية أو السلبية تُنشط شبكات عصبية مرتبطة بالدوافع والعواطف في الدماغ.
    • على سبيل المثال، كلمة “التعب” قد تُحفز مناطق في الدماغ مرتبطة بالإرهاق الجسدي، حتى لو لم يكن الشخص متعبًا فعليًا.
  • الهرمونات والكلمات:
    • الكلمات الإيجابية ترفع مستويات الدوبامين (هرمون التحفيز)، مما يزيد النشاط.
    • الكلمات السلبية ترفع الكورتيزول (هرمون التوتر)، مما يُسبب تباطؤًا في الحركة.

أهمية التجربة:

  • تُظهر كيف أن اللغة تُشكل الواقع ليس فقط على المستوى النفسي، بل أيضًا على المستوى السلوكي والجسدي.
  • تطبيقاتها مهمة في:
    • التعليم: تشجيع الطلاب بكلمات إيجابية لتعزيز الأداء.
    • بيئة العمل: تحفيز الموظفين بلغة داعمة.
    • العلاقات: اختيار الكلمات بعناية لتجنب التأثيرات غير المقصودة.

هل هذه التجربة موثقة؟

رغم أن التفاصيل الدقيقة (مثل اسم الباحث) قد تختلف، إلا أن الفكرة العامة مدعومة بعدد من الدراسات، مثل:

  • تجارب جون بارغ (John Bargh) حول “التأثير اللاشعوري” والكلمات.
  • دراسات عن علم النفس الاجتماعي تُظهر كيف تُغير الكلمات الإدراك والسلوك.

في النهاية، الكلمة في الإعلام ليست مجرد أداة، بل هي القوة التي تُشكل الرأي العام وتُصيغ واقعنا المشترك. فبوعي الكلمات التي نختارها، يُمكننا خلق إعلام ينير العقول ويُحافظ على إنسانيتنا.

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *