د. رياض العيسمي
كاتب وباحث – أمريكيا
التاريخ لا يصنع الأحداث، وإنما الاحداث هي التي تصنع التاريخ. ولهذا يعرف التاريخ على انه: أحداث تدور في زمان ومكان معينين. ولكي نفهم هذه الاحداث المتزاحمة التي تدور في سورية اليوم، لا بد أن نضعها في سياقها التاريخيّ.
منذ سقوط النظام السوري في ٨ ديسمبر، كانون أول، من العام الماضي، ٢٠٢٤، وهروب رئيسه بشار الأسد وعائلته إلى روسيا، والأحداث تتوالى تباعا وتلقي بتبعاتها على سورية وشعبها. والتي كان أخيرها، وليس آخرها، الرسالة القوية التي وجهتها إسرائيل من يومين لرئيس الدولة الانتقالي في سورية السيد احمد الشرع وحكومته. والتي مفادها؛ ممنوع على قواتكم الأمنية والعسكرية التواجد في المنطقة الجنوبية، جنوب الخط الذي نعمل على رسمه في محافظة ريف دمشق. وجاء ذلك بعد الاحداث الدامية التي خاضتها قوات الحكومة مع فصائل مسلحة من الطائفة الدرزية في مدينتي جرمانا وأشرفية صحنايا.
ولا بد من التأكيد هنا بأن ما تفعله إسرائيل هو ليس حدثا عابرا أو طارئا، وإنما جاء كنتيجة لمجموعة من الأسباب تراكمت عبر تاريخ العلاقة بين سورية وإسرائيل منذ توقيع اتفاقية فك الاشتباك بين الدولتين عام ١٩٧٤، وليس حفاظا على الطائفة الدرزية وحماية لها، كما يحلو لإسرائيل تصويرها ويروق للبعض تسويقها. ان ما تحاول فعله إسرائيل هو فرض حدود فصل جديدة بينها وبين الدولة السورية الجديدة، والتي كانت هي المحرك الأساس في سقوط النظام ووصولها إلى السلطة في دمشق. ليس السويداء، التي تسكنها الغالبية من الطائفة الدرزية، وحدها هي التي تعمل إسرائيل على فصلها عن جسم الدولة السورية، وانما منطقة الجنوب السوري بكامله. والذي يشمل ما تبقى من محافظة القنيطرة، التي تسكنها طوائف متعددة، ومنها الطائفة الدرزية. وكذلك محافظة درعا، والتي سكانها بغالبيتهم من الطائفة السنية. والتي عمل النظام، بعد انطلاق الثورة السورية عام ٢٠١١، وبضغط من إسرائيل ودعم من إيران لتهجير عددا كبيرا من سكانها إلى الأردن وإدلب، ومناطق ودول اخرى. والخط الفاصل الذي تحاول فرضه إسرائيل لا يقتصر على جنوب دمشق، بل ويمتد إلى غربها. ومازالت عمليات التهجير من مضايا والمعظمية وداريا والزبداني حاضرة في الأذهان ومازال منظر الباصات الخضراء وهي تنقل السكان من هذه المناطق قسرا إلى إدلب تستوطن في الذاكرة. وذلك بحجة انهم فصائل ارهابية متطرفة. والذين قسم منهم عاد مع هيئة تحرير الشام ليحكم اليوم في دمشق. والمؤشرات على الأرض تدلل عن أن الخط الفاصل الذي تحاول ان ترسمه إسرائيل لا يقتصر على سورية فحسب، وانما يمتد إلى جنوب نهر الليطاني في لبنان. اذن، القضية هي ليست قضية السويداء والدروز، وانما قضية الحدود التي تحاول رسمها إسرائيل لدولتها اليهودية المزعومة، والتي لا تعرف الحدود. وحدود الفرات والنيل هو شعار وهمي لتعميم الرواية التوراتية لإسرائيل الكبرى. إذن أين تقع حدود إسرائيل؟
روى المرحوم حمود الشوفي عن لقائه بالسفير الأمريكي ريتشار ميرفي في دمشق في حزيران عام ١٩٧٤ عندما كان الشوفي حينها يشغل موقع مدير مكتب شؤون امريكا في وزارة الخارجية. وكانت المناسبة للتحضير لزيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هينري كيسنجر آنذاك. وذلك لدعم وتعزيز دور النظام السوري ورئيسه حافظ الأسد بعد توقيع اتفاقية فض الاشتباك بين سورية وإسرائيل برعاية الامم المتحدة في أيار من ذاك العام. قال ميرفي للشوفي مازحا، وهو كان يعرفه عندما كان كليهما سفراء لبلديهما في إندونيسيا، ” لماذا انتم في العالم العربي وسورية تحديدا راديكاليون، أما آن الآوان لكم للاعتراف بإسرائيل؟” فرد عليه الشوفي هازئا وبحنكة ديبلوماسية: بإمكانك ان تذهب إلى إسرائيل الآن وتعود منها بخارطة توضح حدودها بدقة، ونضعها امام الاجتماع المرتقب، عله يتم إقرارها.”
عندما قدم الشوفي هذا المقترح الساخر كان يدرك تماما بأن هذا أمر مستحيل ان تفعله إسرائيل. وذلك لان تحديد حدودها في ذلك الوقت يعني وقف توسعها. وهذا بحد ذاته يلغي فكرة وجودها. وعليه اصرت إسرائيل في حينها على ألا يكون هناك اتفاقية سلام دائم مع سورية، وإنما فقط فك اشتباك ووقف الأعمال الحربية. وبمعنى أخر، حماية حدود إسرائيل مقابل حماية النظام في دمشق. ومنذ تلك الاتفاقية في عام ١٩٧٤، توالت الاحداث التي قادت إلى ما هو حاصل اليوم. ففي عام ١٩٧٥ اشتعلت الحرب الاهلية في لبنان، دخل النظام السوري بجيشه إلى لبنان في مطلع عام ١٩٧٦ لضبط إيقاع الحرب وإطالة أمدها، وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية سلام عام ١٩٧٩. وكذلك أسقط نظام الشاه وجيئ بنظام الملالي في إيران. اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٠، اجتاحت إسرائيل بيروت عام، ١٩٨٢. طردت منظمة التحرير إلى تونس وتم تأسيس حزب الله في نفس العام. انسحبت إسرائيل من الجنوب عام ٢٠٠٠. وأبقت على مزارع شبعا وتلال كفار شوية محتلة. حصلت أحداث ١١ أيلول عام ٢٠٠١، احتل العراق عام ٢٠٠٣.
وفي عام ٢٠٠٥ انسحبت اسرائيل من غزة، وعادت وندمت على انسحابها منها. وفي عام ٢٠٠٦ وقعت حرب تموز بين حزب الله واسرائيل. وف عام ٢٠١٤ ظهرت داعش وبدأ ت الحرب عليها. وقبل ما يقارب العامين، عام ٢٠٢٣ في ٧ أكتوبر حصل طوفان الأقصى وكانت نتيجتها الحرب التي مازالت دائرة في غزة.
وأيضا بسبب طوفان الأقصى، تمت تصفية قيادات حزب الله تمهيداً لتطبيق القرار ١٧٠١ ونزع سلاحه. وكذلك سقط نظام الاسد في سورية. ونظام الملالي في ايران على الطريق. وبهذا اصبحت المنطقة مكشوفة أمام إسرائيل لرسم حدودها كما تشاء. وما عدا ذلك هو تفاصيل لإغراق الناس فيها وفرض الفوضى والضياع في المنطقة. فهل ستنجح إسرائيل في تحقيق اهدافها وإضافة حدثا جديدا لأحداث التاريخ المتسلسلة هذه، وعقد اتفاقية سلام مع كل من سورية ولبنان معا، والوصول إلى تطبيع عربي شامل معها. هذا سيعتمد على مجموعة من المعطيات المتغيرة والزمن وحده هو الكفيل بالإجابة على هذا السؤال. يقول المؤرخ والمفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري “ان بقاء إسرائيل يعتمد على الدعم الأمريكي بلا محدود والتقاعس العربي اللامحدود. ولذلك فإن فشل اسرائيل يعتمد على اختلال هذه المعادلة بتغيير أحد العاملين.
الأمل يكمن في تقدم الزمن وتطور وعي الشعوب.