ملامح الحداثة في شعر وفيق سليطين

معين العماطوري
معين العماطوري

  الباحثة: ماجدة أبو شاهين

 ماجستير في الأدب العربي الحديث

ملخَّص البحث:

شهِد الشِّعرُ العربيُّ في العصر الحديث انعطافاً كبيراً عصَفَ ببنيته التقليدية، فانفجرت تلك البنية انفجاراً هزَّ كيانه، وكان لهذا التحوُّل أسبابٌ داخلية، إذ عجز النَّمط الشعري الذي كان سائداً عن مواكبة التغيُّرات التي طرأت على المجتمع العربيِّ، وأسبابٌ أخرى خارجية تتجلَّى في انفتاح العرب على الآدابِ الغربيَّة وتأثُّرهم بها. ما أسهم في تحديد ملامح القصيدة الشعرية الحديثة عبر المراحل التي مرَّت بها، ومن هذه السِّمات الاعتماد الكبير على تفجير طاقة اللغة وشحْنها بالإيحاءات، والتغيير في العلاقة المألوفة بين الدالِّ والمدلول، والاتِّكاء على الرمز والأسطورة وطاقة الخيال، والتكثيف، والاهتمام بالموسيقا الداخلية التي استعاضَ بها الشُّعراء عن الأوزان والقوافي، ويدرس البحثُ سمات قصيدة الحداثة من خلال مقاطع من القصيدة الحداثيَّة التي كتبها الشاعر وفيق سليطين استجابةً للظُّروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشها.

الكلمات المفتاحيَّة:

(الحداثة-8، المجاز-7، الرمز-6، الأسطورة-5، الخيال-4، التكثيف-3، الموسيقا-2، الإيحاء-1)

مقدّمة:

بدايةً يترتّب علينا أن نشير إلى أنَّ مفهوم الحداثة ليس مفهوماً زمنيّاً، إذ ليس كلُّ جديدٍ في زمانه حديثاً، ولكنْ كلّ حديثٍ هو جديد بالضرورة .

ولا بدّ من القول أيضا أنه لا شيءَ حقيقيَّاً وأصيلاً يفقد قيمته بمرور الزمن، أو بظهورِ أعمال تاليةٍ هامّة، مثلما هو الحال في منجزات العلوم الطبيعية التي تلغي ما سبقها أو تستوعبه وتتخطّاه. فما من عملٍ أدبيٍّ يستطيع أن يلغيَ معلّقات الشعر العربي، أو رباعيّات الخيّام، أو (أوديب سوفوكليس)، أو (دون كيشوت سيرفانتس)، أو (هاملت شكسبير) ويحلّ محلّها في الأهميّة أو في المكانة الأدبية.

وقد عرَّف جاموس(2014) الحداثة كالآتي: “الحداثة تعني مدى قدرة المبدع على الإحساس بروح العصر، والنفاذ إلى جوهر الظواهر، والتقاط السمات المميّزة للمجتمع في حقبة زمنيّة معيّنة، ونمذجة الطباع البشريّة التي تتفاعل مع ظروف عصرها تأثّرا وتأثيراً، واستشفاف الآفاق التي يتّجه نحوها المجتمع”((20.

والحداثة من هذا المنطلق هي اتّجاه حتميٌّ لكلِّ من أراد مواكبة الحياة في جريانها السريع نحو الأمام مواكبة واعية بعيداً عن قيود التعصّبِ الفكريِّ أو الانغلاق على الثقافة المحليّة حتى لا يُوسَم بالتخلّف ويصبح خارج مسيرة الزمن.

هذا يعني أنّ الحداثة الأدبيّة هي الحساسيّة الشديدة للحياة الجديدة التي ينكر فيها الأديب الاتِّباعَ ويدعو إلى التفرّد والإبداع، والانفتاح على التجارب الأدبية العالميّة، مع الحفاظ على هويّة ثقافيّة خاصّة به تؤكّد وجوده، وإسهامه الحضاريَّ، وشخصيّته الإبداعية المتفرّدة، وتمنعه من التقليد الأعمى للآخرين والذوبان في مذاهبهم.

الدراسات المرجعية:

1-مجلة الموقف الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق_ العددان:193-194 أيار وحزيران-1987 التي تناولت ملف الحداثة والشعر.

2-مجلة عالم الفكر- المجلد التاسع عشر- العدد الثالث- 1988 والتي تناولت مقالاتها الحداثة والتحديث في الشعر، ومن هذه الموضوعات:( انكسار النموذجين الرومانسي والواقعي في الشعر- الشعر العربي الحديث بين التقاليد والثورة)

3-الشعرية العربية لأدونيس، وهي مجموعة محاضرات ألقيت الكوليج دو فرانس، باريس، أيار 1984 وتناقش تطور الشعر عند العرب، وأسباب هذا التطور، وسمات كل مرحلة من مراحله.

4-الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا، وتجربة الحداثة في مجلة” شعر” وجيل الستينيات في سورية، للدكتور عبد الله عساف 1996

5-الحداثة في الشعر العربي المعاصر، بيانها ومظاهرها، الدكتور محمد حمود1986

ملامح الحداثة في شعر وفيق سليطين:

إنَّ القراءة في القصيدة الحديثة هي في نظر أدونيس (1989) تحويلُ الكتابة إلى “مكان اكتشاف، وأدوات اكتشاف وعلاقات اكتشاف، من هنا تصبح قراءة النصِّ الشعريِّ إغناءً من حيث أنَّها تسير في الأفق الذي يفتحه النَّصُّ، ومن حيث أنَّ هذا السيرَ لا ينتهي، لأنَّه استقصاءُ للعمل الشعريِّ، وعلاقاتُ رموزهِ وصوره، ومن هنا ليس للنصِّ معنىً كما يُفهم تقليديَّاً، وإنَّما هو حركيّة الدلالات، إنَّه بتعبيرٍ آخرَ لا يقدّمُ اليقينَ بل الاحتمال، إنّه نصٌّ يتجدَّد مع كلِّ قراءةٍ، لا ينتهي، لا يُستنفد، هذا ما يميّز الأعمال الشعريّة الخلّاقة” (27).

 ولدراسة سمات قصيدة الحداثة سوف ندرس بعض قصائد الشاعر وفيق سليطين ( (1961-2021 بوصفه أنموذجاً للشَّاعر الحداثيِّ:

كتب سليطين ( ( 2013 في مقطعٍ من قصيدة (الوقت):

“هي صحوة الأشياء في غيبي / سلالةُ شاعرٍ/ أصوات من رحلوا ومن يأتونَ / لا جهةٌ تحددّ قيامهم / مرّت قوافلهم / وظلّ هنا الحداء معلّقاً/ والذئبُ يتبعني / ومثلي مُرمِلٌ / فأنا به إثنان :/ أعرك طينتي /وأذود عنّي /وأنا نجيُّ حجارةِ الزمنِ العصيِّ /وخاطف النار التي احترقت / وكهف غوايةٍ / وأنا بأوَّلِ ما ترقرقَ من مياهِ الرُّوح فيكِ شهيدُ ذاتي “(31)

 أولى سمات القصيدة الحديثة التي تطالعنا في شعر سليطين في هذا المقطع هي:

:الذاتيّة:

  استطاع الشاعر سليطين التعبيرَ عن تجربته الحياتيّة كما يعيها بعقله وقلبه معاً، تعبيراً ناجماً عن تفجّرٍ حسّيٍّ داخليٍّ، زاخراً بالإيحاءات،  بعيداً عن فخِّ التقليد أو شحوب المباشرة، تعبيراً طافحاً بمشاعره، ورُؤاهُ عن فلسفة الوجود، وموقفه من الحياة، من خلال تلك الجمل الشعريّة التي يتلّقف بعضها بعضاً، ثم تجري كنهرٍ مندفعٍ نحو الاتساع بالمعنى والإحساس والصدى، ومن خلال صورٍ يُمسِك بعضُها بأيدي بعض من خلال ضمائر المتكلم في 🙁 غيبي، يتبعني ،أنا) الواردة في الصور التالية: ( هي صحوة الأشياء في غيبي)، (الذئب يتبعني)، ( وأنا نجِيُّ حجارة الزمن العصيِّ) .وقد أكّدت هذه الضمائر الشخصيّة على ذات واعية مستقّلة في إرادتها و نظرتها للوجود لتعزِّز بتكرارها دَورَ الأنا الشاعرة. وهنا استطاعت القصيدة الحديثة أن تؤكِّد الذاتَ الباحثة عن التفرّد والإبداع وتحمل هواجسها تِجاه الوجود، ونجحت في تجاوز الأشكال والمقاييس والمفاهيم الماضويّة التي كانت تؤطّر حالاتٍ مرتبطة بزمانها ومكانها، ولم تجرّب لذّة الإبحار في فضاءاتٍ جديدة. إضافةً إلى أنها ليست خواطر وتداعيات وحسبُ، بل هي رؤية ذاتيّة واضحة المعالمِ يرسمها الوعيُ اليقِظُ لتكون القصيدةُ عملاً غائياً مقصوداً لذاته، ولكنّ هذا لا يناقض العفويَّة والسلاسةَ في حضور الأفكار وصياغتها بأسلوب فنّي تصويري، وبهذا تحافظ القصيدة على توازنها بين حيّزين يشكِّلان وجودَها هما: الوعي واللَّاوعي؛ وهما الحيِّزان اللَّذان يشكّلانِ الذاتَ المبدعةَ نفسَها. وكلُّ تجربةٍ حياتيَّة أو ذهنيَّة يعيشها الشاعر يمكن أن تلهمه مادة شعريّة ثرّة، وفي هذا الصَّدد يقول أدونيس ((1992: “لستُ كتاباً، ولا قاعدةً، ولا زاويةً، إنني أفقٌ، وقدري هو هذا: أن أُشِعَّ، وأستقبلَ الضوءَ…هل تريد أن تكون شاعراً، إذن قلِّد بشكلٍ شخصيٍّ جِدّا شعراءَ لم يولدوا بعد”(37). إنَّ انطلاق الخيال لا يمكن أن يحدثَ في ظلِّ قمع الذَّات وحياديّتها وأسْرها في الماضي، ما يلغي إشراقها الداخليَّ، وحساسيّة المخيّلة المنفتحة عليها، بل لابدَّ من حوارٍ مع المستقبل يوسِّع رؤى المبدع، ويُغني عوالمه الداخليّة بفيض من التجلّيات الخلّاقة التي تجد لها في القصيدة الحديثة مناخاً خصباً يعيد الاحتفاء الرومانسيَّ بالذات المبدعة التي تسلك مسالك الجرأةِ في التعبير عن مكنوناتها بكلِّ شفافيّة وانسكابٍ من مزن التخييل.       

  لكنَّ هذه الذات المبدعة ليست بحال من الأحوال منفصلة عن محيطها الاجتماعيِّ، فالمجتمع هو الذي يمدُّها برؤيا العالم وجوديّاً، والكتابة من حيث هي فعلٌ تحرريٌّ هي نتاج علاقة الأنا الفرديّة بالأنا الجماعيّة في محيط حيويٍّ مفتوحٍ، تتفاعل معه تأثُّرا وتأثيراً، تنهَل منه حتى الارتواء لتغذّي منابع الجمال الكامنة فيها، ثم تتفجّر صوراَ تصبغ مساحاتٍ – صغيرةٍ أو كبيرةِ – من هذا المحيط بألوانها الخاصّة. فالذاتية لا تعني الخروج على الجماعة بمفهوم الانسلاخ عنها، بل تتضمّن الحوار معها لتجاوز ما هو مستهلَكٌ و ولوجِ ما هو حديثٌ بديعٌ ، إنَّه التأكيد على التحرُّر من كلِّ ما يقيّد الشاعرَ، ويقيِّد المجتمعَ الذي ينتمي إليه أيضا، وبذلك يفتح الشاعر مع الآخر باباً جديداً على الرؤية والتأويل. 

: الرمز:

يزخر المعجم اللغويُّ لشعرِ الحداثة بالرموز، ولكنْ لا تعيدنا رموزه إلى التُّراث الشِّعريِّ لغةً ودلالةً؛ إذ انزاحت معظم الرموز عن دلالتها التراثيّة، ودخلت في تشكيلاتٍ لغويّة جديدة، لتصبح بؤراً دلاليّة مشعّة؛ رموزاً تمنح الشعرَ أفقاً أرحبَ، وقيمةً ترابطيةً كبرى، تتحرّك في القصيدةِ بدوالَّ مختلفةٍ تدور في مدارات متوازية حول هالة المعنى. وبذلك يرتفع النَّصُّ عن مدار اللُّغة الشعرية المستهلكة، وتفتح له الرموز المضيئة احتمالاتٍ متعدّدة الدلالة، تكثّف وهجها لتكشف مساحاتٍ إضافيّة خضراءَ من أرض الشعر الجديدة.

كتب سليطين((2013 في قصيدته( الغراب):

  “ألا يا غرابَ المسافةِ ظلّلْ رياحينَهم يا غرابُ

  وكُنْ في النعيبِ بشيراً ، ومزّقْ خرافتهمْ عنكَ..

 أطلقْ أجنّتكَ القادمينَ على غير ما كان، من ثوبك القدريِّ” ((60

 استخدم الشاعر رمزَ (الغراب) الذي اتَّخذه الناس رمزاً للخراب والموت، وقد تخطّى به الواقعَ المرئيَّ ليوحّد بين ذاته و موضوعه ويجعل هذا الغراب معادلاً موضوعيَّاً لذاته العربية التي تعرَّضتْ طويلاً للإجحافِ والإنكارِ من الآخر، دلّنا على ذلك قول الشاعر: (أطلق أجنَّتك القادمين على غير ما كان من ثوبك القدريِّ).

 فهل هو ذلك العربيُّ الذي آثرَ أن يعشّش في أطلال حضارةِ أجداده، ويندبها بنعيبه المرِّ، أم أنَّه رمزٌ لاستمرار الحياة رغم واقعٍ عبثي أسودِ الأفق؟ أم أنَّ استخدامه لهذا الرمز (الغراب) يحمل نوعاً من جلْد الذَّاتِ، وتحميلها مسؤوليّةَ ما آلت إليه الحضارةُ العربية بعد إشراق؟!.

إنَّ عليه الآن كشاعرٍ نبيٍّ في قومه أن يبدّل المفاهيم المغلوطة عن سلبية هذا العربي ويُطلق رؤاه نحو الغد الأجمل:

(وكُنْ في النعيبِ بشيراً، ومزّق خرافتهم عنك، أطلق أجنّتك القادمين على غير ما كان من ثوبك القدريّ)

وربّما حمَّل الشاعر هذا الرمز معنى نقد الذات – انطلاقا من فكرة الهدم من أجل إعادة البناء – ذلك العربي الذي ينوح الآن على رسومِ حضارته الدارسة، وحيداً على هامش الزمن، فقيراً إلَّا من الأملِ، أعزلَ إلا من رغبةٍ في البعث، يقتات على فتاتٍ من بقايا أمجاد الماضي ويحلم بالمستقبل، فكم من أبواب الدِّلالات يمكنُ أن يفتحَ هذا الرمزُ لنا على باحة المعنى! إنَّه أشبه بمونولوجٍ داخليٍّ يحيكُ لصاحبه أو للقارئ شبكةً من الأفكار في لحظة تجلٍّ، ثم يجدُ نفسَه أسيراً لها، فهل أحسنَ الشاعر هنا التخلُّصَ من هذا الشرَكِ من الدلالاتِ التي حملت التآلفَ والتناقض بآنٍ معاً؟ وهل أجاد تحويلَ تركيزِ القارئ إلى أكثرِ بؤرِ الدلالةِ إضاءةً؟ نعم، لقد ألمحَ إلى الباب الصحيح لدخول المعنى، فيكتب سليطين ((2013:

      سيقتات بالعبثِ المرِّ شاعرُ هذا الخرابِ..

      يصوغ أديمَ الطريقِ إليهِ / ويحرقُ معنى الإيابِ

     ضراماً من الحبِّ يأتي على الحرب في شوكةِ الأرضِ

     يقلّب منها الجذورَ ليحرثَ في أفقهِ /  يواعدَ جذراً هنالك من برقهِ ويقول:

    أنا الجذرُ محترِقاً وعصيّا /  أنا آخِرٌ في دمائي /  أوّلٌ، والأَمامُ ورائي

    وأنا غايةُ لاحتراقي، أخضرٌ بيرقي في الأفول(61).

إنَّه سكونُ ما قبلِ العاصفة المطريّة التي يبشّر بها الشاعر، والتي ستغسل تلك المفاهيمِ المغلوطة عن بَلادة الإنسان العربيِّ واتّكائه على ما بناه السَّلف، بل إن عليه أن يطاولَ تلك (الجذور) ويتفوّق عليها ليبني لنفسه حضارة عربية معاصرة.

 ويستخدم الشاعر في المقطع الثاني رمزاً آخر هو (النار)، من خلال عبارات وألفاظ كثيرة: ” يصوغ أديمَ الطريق إليه- ويحرق معنى الإياب – ضراماً من الحبّ يأتي على الحرب في شوكة الأرض- وأنا الجذر محترقاً وعصيّا- وأنا غايةٌ لاحتراقي”.

إنَّها النَّارُ التي كانت نقطةَ البداية في حضارة الإنسان، النارُ التي تُحرق الجسد البالي المقيِّدَ  لتُطيِّر الروحَ في ملكوت المطلق، إنَّها النار التي تطهّر واقعنا العربيَّ من رِجس الجهل والتخلُّف والتقليد، النارُ التي تطلق من رمادها فينيقاً سوريّاً يرفض الموت ويشتهي التحليق في المستقبل، إنّها النار التي تصهر الذهب لا ليذوب في غيره أو يتلاشى ، بل ليزداد توهّجا واعتداداً بأصالته في مَصاغٍ فنّي جديد و بديع ( أنا الجذر محترقاً وعصياً).

إنَّها النَّارُ، الوسيطُ الحيويُّ لكلِّ تفاعلٍ تتغيَّرُ فيه سمات المُدخَلات المنفصلةِ، لتصبح مُخرَجاتٍ متَّحدةٍ ذاتِ قيمةٍ وتفرُّدٍ، والنارُ التي تقود إلى النّضجِ إنسانيّاً ومعرفيّاً وحضاريّاً ( وأنا غاية لاحتراقي).

يُمطر الرمزُ في قصائد سليطين دلالاتٍ غزيرةٍ، فتنمو في عقل المتلقِّي ووجدانه غاباتٌ من الأسئلة، تحلَق فوقها طيورُ الخيال، لتقطف البصيرةُ زهور المعنى. ولا يكفُّ الرَّمز عن لعب دوره الإيحائي أثناء حركته الداخليّة في القصيدة، ما يمنحها نموّاً داخليّاً متوازناً يحقِّق لها وحدتها العضويّة والنفسيّة، ويُضفي عليها الإشراقَ في معانيها، والنضارة في مفرداتها، والقداسة في كمالها.

وفي شعر (سليطين) احتفاءٌ بالمرأة كرمزٍ جماليٍّ وروحيٍّ؛ إنَّها عشتارُ إلهةُ الخِصبِ والحبِّ في الحياة، ونصفُ الرَّجُلِ الآخرِ الذي به يكتملُ وجوديّاً وروحيَّاً، وربَّما ذهبَ الشاعرُ أبعدَ من ذلكَ ليجعلَ المرأةَ رمزاً للذات الإلهيَّةِ على مبدأ الصوفيَّةِ، يقول سليطين(2013، ب): حبيبي الذي يتلفَّتُ فيه الغزالُ الأغنُّ /تلفّتْ، وقل لي: حبيبي/ لتحيا بي الكائناتُ/ وأحيا هُنيهةَ عمري كما الوردُ في وجنتيكَ ../ تعال حبيبي / ومزّق غشاءَ جنوني / ليصبحَ نقصي كمالي/ وقوِّضْ ورائي دروبي/ و عِدني بألّا أعودَ إليَّ” (51-50).

ويستطيع سليطين بوساطة الرمز- على حدِّ تعبير كولريدج- “أن يُحدِثَ اللِّقاءَ الأعمقَ، لقاءَ الشاعرِ مع نفسه العميقة، مع عالم الطبيعة والناس، مع الحقيقة المتعالية” (154). وفيه يبلغ الشاعر اللَّحظة الشعريَّة، التي يتَّحدُ فيها الواقعيُّ بما وراءِ الواقعيِّ في تكثيفٍ صوفيٍّ عرفه الشاعر سليطين وتحدَّثَ عنه في كتبه النقديّة عن التصوّف. وفي كلمة (الجذر) التي جعلها الشاعر رمزاً للأصالة و تأكيداً للذَّات، حمل الرمز حالة استبدالٍ، وحالة تكثيفٍ، وتركيبٍ، وتخيُّلٍ؛ إذ جسّد في لحظة الإبداع حدساً للانقلاب العقليِّ المرتبط بالخبرة الذاتيّة والخبرة الموضوعيّة للمبدع في حالة قوّةٍ انتقاليّةٍ غير واعية.

:استبطان اللغة:

 إنَّ بناء القصيدة الحديثة هو الغايةُ التي تنشدها النظريّات الأسلوبيّة الحديثة التي ركّزت على كيفيّة القول أكثرَ مما ركّزت على ماهيّته، فهو مسبارُ نجاح القصيدة ومعيار كمالها.

وقد أدركَ شعراءُ الحداثة أنَّ اللُّغةَ الشعريَّةَ لا يحدُّها معجمٌ، و خبِروا مرونتها وحيويّتَها وخصوبتَها، وقدرتها على إسقاط أوراقها اليابسة باستمرار، والاكتساءِ بالغضِّ الجديدِ من الورق، فتعاملوا معها بجرأةٍ وجسارةٍ في اجتراحِ أساليبَ جديدةٍ يطعِّمون بها ما سلف من أساليبهم، لتمنحنا  أشهى الثمارِ وأجملَها شكلاً.

هكذا حلّقت القصيدة الحديثة في آفاقٍ أسمى وأرحبَ، بعد أن استخدم الشعراء لغةًّ نشيطةً، متحرّكة، متفاعلةً، لغةً خاليةً من شوائب العامّة والاستعمال الدارج المستهلَك، لغةً ذاتَ دلالاتٍ مجنَّحةٍ وإيقاعٍ حيٍّ.

ويكتب سليطين(2013 ، أ) بهذه اللغة قصيدته الحداثية:

” موسيقى

كأنّكَ من يدقُّ في ساعة البيتِ ..

هل الساعةُ أم قلبي؟!

وصوتكَ يغزوني، وأغزو فرحي فيهِ فأسمعُ .. ألمسُ .. أفنى

حتى أتذوّق من حولي الأشياءَ بصوتكِ

يأتي من قلب الأشياء ، ومنّي  .. يأتي

أتقطّع فيهِ .. وأنا مشغولٌ بالزحمة

مرتبكٌ بالحشد اليوميّ لأحوالي”63 ))

استطاع سليطين أن يحقِّق الانسجام والتوازن بين فكرته عن (الموسيقى)، وبين لغته الواضحةِ المناسبة لهذه الفكرة ليفصح عنها أيّما إفصاح؛ كقوله:” مرتبكٌ بالحشد اليومي لأحوالي“، “حتى أتذوَق من حولي الأشياء بصوتكِ“. لقد أرسل طبعَهُ على سجيّته إرسال الآمنِ المطمئنِّ فأصاب الغرضَ، واستطاعتِ المفرداتُ والتراكيبُ التي اختارها الشاعر بوعيٍ لخصائصها المورفولوجيّة والإيقاعيّة أن تحمل تجربته الإبداعيّة وعاطفته الصادقة الهادئة، وهذا يفضي إلى تطهير النفس والسموِّ بها. فاللُّغة إذن هي الجسرُ بين الشاعر والقارئ، تحُلُّ فيها الفكرةُ والعاطفة حلول الإله متعشِّقاً في نفس المتصوِّف لتنقل تجربة الشاعر بأمانةٍ ونبلٍ وشفافيّة.

وقد كانت اللغة في قصيدة سليطين نابضةً بالحياة والحركة، تستطيع أن تنقل الأحاسيس الجماليّة، و أن ترسمَ المشهدَ وتصوِّر تفاصيل الحدثِ وانعكاساته على إحساس الشاعر، وتحقِّق التطابقَ بين أسلوب الشاعر والمضمون الفنّيِّ للنَّصِّ من جهةٍ، وبين فكرِ الشاعر وروحه و من جهة أخرى.

لقد عرّف كولردج (2015) الشعر الرائع بأنَّه “أفضل الألفاظ في أفضلِ الأوضاع” ((42، وأعطى مفهوماً له إذ أوجبَ كولريدج 2015)) “أن يكون لكلِّ عبارةٍ ولكلِّ استعارةٍ وتشخيصٍ ما يسوّغهُ من العاطفة سواءٌ كانت هذه العاطفةُ عاطفةَ الشَّاعرِ نفسٍه أم عاطفةَ الشخصيَّة التي يرسمها” (43)

والأمثلة كثيرة في شعر سليطين( 2013، أ):

“أنا الذي أشاحَ بوجههِ عن جَهارة الأشياءِ،/ عن أدرانِ اللُغة و المعنى..

عن البروزِ القبيحِ لما سوفَ يكون

أنا الذي لم يرَ../ قلتُ لكم ما لم أقلْ / بإحساسي الذي تنحسرُ البلاغةُ عنه

قلتُ لكم وردتَه.. / قلتُ لكم بصيرةَ اللُغةِ المجهولة

بتيهِ العارفِ الذي ماتَ.. / ولم يعرفْ سوى المسافة”34) )

الشاعر هنا يعلن عن تعاقُدٍ آخرَ جديدٍ مع اللغة، فهو يرفض أن يعبُدَ الحرفَ، أو أن تستبدَّ به لغةٌ تقليديّةٌ باردةٌ جوفاءُ، ويريد من لغته أن تكون قميصاً شفيفاً لذاته، ومرناناً لقلبه، ولغةً مِطواعةً تحتوي مشاعره ورؤاه بحنوٍّ واقتدار، ويستبطنها لتفصحَ عن مكنونات نفِسه.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ معرفةَ الشاعر بخصائص اللَّفظ، وأصالةِ العبارة، وجماليّةِ التنسيق بين العباراتِ في الجملة الشعريّة، يسمح لكلِّ لفظٍ أن يُشعَّ شحنته من الإيقاع، وهذا بدوره يمنح الألفاظَ بمجموعها ظِلالاً متناسقةً، وموسيقا معبّرةً عن حالةٍ شعوريّة نلمسها في انسياب النفَس الشعري أو تقطُّعهِ، في سرعته أو إبطائه، وهذا ما يمكن أن نسمِّيَه: “الأداءَ النفسيَّ للُّغة “.

 ولغة الشاعرِ لغةٌ جديدةٌ تخلخل المألوفَ، وتقوّضُ المشترَكَ من أجلِ بناءِ رؤيةٍ مغايرة، وتصفُها (برهم) (2014) بقولِها: “تتجدّد فيها العلاقة بين الإنسان وذاته من جهة، وبينه وبين العالم الواقعيِّ من جهة أخرى …إنَّها رؤيا تسيِّجها الدوالُّ، ولا تتّخذ شكلاً نهائيّاً إلا عندما يجاوز النصُّ ذاتَه، يجاوز بنياتِه النصيّة باتجاه القارئِ وأفقِ انتظاره”((121، فلغة الشعر تنحرفُ عن دلالاتها المألوفةِ المستقرّةِ في الذِّهن، وتتحرَّرُ من مسمَّياتها، وتنتقل من عالم الاستعمالِ النفعيِّ المباشر إلى فضاءِ الشَّعريّةِ الرَّمزيّة المفتوح على أفق التأويل.

إنَّها لغةٌ انبثاقيّةٌ توسِّع أفقَ الوجودِ وتكشف عن مكنوناته، وتستمدُّ خصوصيَّتها من طبيعة العلاقات الداخلية الناظمة للسِّياقِ، فالشِّعر يقول شيئاً ويعني شيئاً آخرَ، فيعبِّر عن المفاهيم والأشياء بصورةٍ غيرِ مباشرة.

ومخزونُ الشاعرِ اللغويُّ هو ثروتُه في عالم الشِّعر، لكنَّه يعيد تدويرَ اللُّغةِ التي اكتسبها، ويشحنها بحمولاتٍ دلاليَّةٍ جديدة، ويمهرُها بأسلوبه الخاصِّ فيحقِّق بذلك هويَّته الشعريَّةَ المتفرِّدة.

4-التَّخييل: يقول إيزر(د.ت) :”الشِّعر بنيةٌ تخييليّة تحفّز خيال القارئ على لمِّ شتاتها على معنى من المعاني المحتملَة والمتّسقة” ((163. إنّه مزروعٌ في الشاعر حَرْبةً من الخيالِ المشتعلِ، فماذا يتبقّى من الشعر إن غادرَ خرافاتِه وأساطيره؟! فليستْ مهمَّة الشاعر أن يفسِّر اليقينَ المدهش في الطبيعة، بل مهمّته أن يفرد لنفسه عوالمَ من الخيال لم يطأها أحدٌ قبله، ويمضي بها كطائرٍ خُرافيٍّ، يحوِّلُ كلَّ شيءٍ حوله إلى صورٍ مجنَّحة تُفلت من الفِخاخ، وتفرُّ من معبد الحقيقة إلى واحات الرؤى الغنّاء، ثمّ يلتقط إيحاءاتِها، ويجمع أنغامَها في ذاته الشاعرة؛ إذ أنَّ من طبيعة رؤيا الشاعر أن تكون غامضة و لُغزيّة إلى حدٍّ ما، فالحداثةُ تعني ابتكاراً وإدهاشاً صادراً عن صفاء ذهنِ الشاعر، وبُعدِه التأمّليِّ، لا عن تشوّشٍ روحيٍّ، أو ضَعفٍ في التعبير، بل هو كالماسِ؛ فيه غموضٌ غير معتمٍ، تستطيع لغتهُ الإشعاعَ، والتوهُّجَ، والسَّفرَ، في فضاءٍ غيرِ محدود. وعلى شعراء الحداثة أن يُجيلوا النظر في حقولهم اللُّغوية، ويشيِّدوا صروحاً لغويَّةً تنبجس منها المعجزاتُ من شقوق أقلامهم، فالشِّعر الحقيقيُّ طوفانٌ لا تحجزه حدودٌ، يرفلُ بالدهشة، ويحملنا على التأمّل في ذواتنا و مصائرنا.

والآن تعالوا نسافر مع خيال الشاعر سليطين (2013، ب)عبر المقطع التالي:

“وكنتُ وجهَ غابتي/ ولحمَها الطَّالع من سُرّة الأرض ومن خمورها/ من زيتها الممزوجِ بالخرافة / فكلُّ ما تخفيهِ من فُتونِها / من جمرها السرِّي / شواهدُ عليْ !

وتحت شالِها، وعند مربط الصخورْ / أعقد زنَّاري كأنَّني الدرويشُ سائحاً/

وطائفا في جُبَّتي / كأنَّني والخلقُ بعضُ حُجّتي / أرشُّهم بالوقت” ( 94)

 إنَّ الحُلمَ الإبداعيَّ عند سليطين طاقةٌ حيّةٌ تبثُّ حركةً جديدةً ترفض التصوُّرات القديمة، والبنى التقليديّة، و تكسر حاجز اللغة التقليديّة، وتنطلق إلى لغة الحُلم والاحتمالِ عبر فعاليتيِّ التكثيفِ والانزياحِ 🙁 وكنت وجهَ غابتي، ولحمَها الطالعَ من سُرّةِ الأرض).

التخييلُ إذن هو تقنية الحدْسِ الإبداعيِّ التي يتعانق فيها الإنسانُ والأشياءُ، ويتجاوز الشاعرُ فيها المتناقضاتِ من أجل بناء عالَم جديدٍ، من خلال إنتاج صورٍ خياليَّة تتَّسم بالذهنيّة وتنزاح عن الواقع بمسافاتِ من الحلم، وتتَّجه صوْبَ الغرابةِ والدهشةِ، والوجيب الكامن في رُوحِ الأشياء. ( أرشّهم بالوقت )، ( عند مربط الصخور ). إنَّها لبِناتٌ ضوئيّةٌ لبناء القصيدة الحديثة، لا يُحسِنُ تقصيبَها و استخدامها إلا المَهَرةُ من البنّائين من خلال صوَر شعريَّة غيرِ ثابتةٍ، بل متفاعلةٍ، تستقطبُ الدِّلالاتِ، وتنظِّمُها، وتكثّفها، ثم تنشرُها في بنية النَّصِّ.

والخيالُ هو القوّة التي يمتلكها الشاعرُ الأصيلُ ليبدعَ صورَه الشعريَّة القائمة على الثنائيات الضدِّية، وتجاوُزِ هذه الأضداد، إنَّه وفق ما يرى كولردج (2015):( القوَّة السحريّة المؤلِّفة التي تطلق روح الإنسان جميعها إلى النَّشاط الحيِّ)2 . ثم ليصل القارئُ إلى الغبطة المعرفيّة عندما يستجلي تلكَ الصُّورَ، ويكتشف سرّها وقوّتها، ويرى التماثلَ في اللَّاتماثل، ويروي عطشه لفكّ شيفرة الصورة. إنَّ المعنى في النصِّ الشِّعريِّ ناجمٌ عن تزاوج الصور الإبداعيّة” فالصورة الواحدةُ تُرسَم وتوطَّد بالكلمات التي تجعلها حسَّيةً وجليَّةً للعين أو للأذن أو للّمس، لأيّ من الأحاسيس، ثم توضَع صورةٌ أخرى قربَها فينبلج معنىً ليس هو معنى الصورةِ الأولى منهما، ولا هو معنى الصورة الثانية، ولا حتى مجموعِ المعنيَين معاً، بل هو نتيجةٌ لهما، نتيجةٌ للمعنيَين في اتّصالهما، وفي علاقتهما الواحد بالآخر”(96)

:التكثيف:

التكثيف كما عرّفه ريفارتير( 2019): “هو سيرورةٌ نفسيّةٌ تجسِّد أفكارَ المبدعِ وعواطفَه، ويعبِّر عنها عنصرٌ واحدٌ على نحْوٍ موجَزٍ و رمزيٍّ تعبيراً مكثَّفاً” ( 201)، إنَّه اقتصادٌ في الدوالِّ، وغنىً غيرَ متناهٍ في المدلولات، بحيث يشكِّل النَّصُّ بنيةً دلاليّةً منسوجةً بمهارة تنفتح على واحاتِ التأويلِ، وللتكثيف دورٌ كبيرٌ في تحفيز ذهن القارئ، وتنشيط مخيّلته، ليتفاعل بصورةٍ واعيةٍ مع النَّصِّ، ويقيمُ حواراً تأمّليّاً مع مبدعه، ويثيرُ لديه كثيراً من الأسئلة، لأنَّ الكلماتِ تفقد بعض خصائصها الدِّلالية، وتكتسب خصائصَ جديدةً مشعَّة عندما تدخل في علاقات لغويّة جدية مع غيرها من الكلمات، التي تومضُ بألوانٍ متداخلةٍ من المعاني، وتفيضُ بالعاطفة، ليحقِّقَ الشاعرُ بذلك سهميَّة التعبيرِ الذي تتوسَّع دلالاته مع كلِّ قراءةٍ، وحتى لا يظلّ الكلام نظريّا بحْتاً، سوف نقرأ مقطعاً من قصيدة  سليطين( (2019:

 “هذا أنا .. لم يبقَ منّي غيرُ ما تركَ الغرابْ

 أخبارُ مملكةِ السَّراب وملحُها

 صورٌ يمورُ بها التُّرابْ

 صورٌ.. وتهتاجُ الجذورُ … قرأتُها .. وأنا الكتابْ

 -هل أنتَ بعضُ دمِ السَّرابِ؟…

 أقول لي، ويجيبني عنّي دمٌ يخضرُّ في الأحشاءِ

يكتبني هنا .. في غيمةٍ نفرَ الحنينُ بها فغابتْ

واستقرَّ بها الغياب”(63)

اللغة في القصيدة الحديثة عند سليطين تأبى إلا أن تضفُر خصلاتِ المعنى، وتتحوّل إلى سهمٍ باتجاه العمق، بعد أن كانت سابقاً دائرةً مرسومةً على وجه الماءِ تتَّسع اتّساعاً سطحيَّاً يسير نحو التلاشي. وفي المقطعِ الشعريِّ السابق نلاحظ تكثيفاً دلالياً بليغاً وبديعاً في عبارات من مثلِ: ( أنا الكتاب)،( هل أنت بعضُ دمِ السَّراب؟  فكلُّ عبارةٍ منها تحمل حزمةَ دلالاتٍ مشِعَّة، تتقاطع جميعُها في مِحرَق المعنى فتزيده توهُّجاً وإدهاشاً، وتنطلق نحو تأويلاتٍ متناظرة في توزُّعها الشعوريِّ والنفسيِّ والمعنويِّ، لتحرِّك سكونَ ذهنيّة القارئ، فيتلمَّسها بأناملِ الوجدانِ، ويراها بعين الحدْس المتطلّعة دائماً إلى كلّ بديع.

إنَّه التكثيفُ الذي يرتقي بلغة الشعر عن الهذر والإطناب، لتصبحَ الجملةُ الشعريَّة ومضةً تَهدي إلى المعنى وتغري به النَّفس، لكنَّها لا تكشفُه إلا بعد تأمُّل وتفكُّر، فيمنحُها كثيراً من اللَّذةِ والبهجة عندَ الحصولِ على الدُّرِّ المكنونِ في أصدافِ اللَّفظ. ففي التكثيف يحقِّق الشاعرُ زخَمَ الإيحاءِ والتفجيرَ الحسّيَّ الداخليَّ للُّغة.

الموسيقا الداخليَّة والإيقاع:

قد وجد الشعراءُ الحداثيّون في البحور الشعرية القديمة كنزاً نفيساً، فأخذوا منه التفعيلاتِ لبناءٍ معادلاتٍ موسيقيةٍ جديدة، بعد أن تغيَّرَ الذَّوقُ الموسيقيُّ عند القرَّاء، ونما وتأثر بالبناء السيمفونيِّ الأوروبيِّ إلى حدٍّ بعيدٍ، فصار من الضروريّ استحداثُ بنيةٍ إيقاعيَّةٍ للشِّعر تتناغم مع إيقاعِ الحياةِ المتسارع، وتكونُ الحاملَ الأمينَ للأفكار والمشاعر. كتب سليطين (2013 ، ب):

 “أهزُّ القصيدةَ حتّى أقولَكِ / حتى أحُفَّ ببعضِ الكلامِ الذي يتكوكبُ عند ظلالكِ / هذا السُّقوط المدوِّي ابتداءُ علوِّ الكلامِ إليكِ/، سُموقُ القصيدةِ / مقتلُ شاعرِها في امتناع العبورِ البخيلِ / وميلادُه في المجازِ البعيدِ الخضيل”((48.

تُرى هل كان بإمكان بحورِ الشِّعر التقليديَّة أن تحمل هذه المعاني الجديدة بتفاصيلها الحميمة، وألوانها النفسيَّة، أو تنقلَ لنا حرارة المشاعر مثلما هي لحظة ولادتها؟! .

لقد حملتْ كلُّ كلمةٍ إيقاعَها الداخليَّ كعلامةٍ ضمنَ تأليفٍ موسيقيٍّ متناغمٍ، تتجاوب مع غيرها من العلامات المجاورة لإكمال اللَّحن الذي يعبّر بدوره عن حالة شعوريّة خلَّاقة للمعاني؛ إذ لا يمكن الفصلُ بين الكلمةِ ومعناها وإيقاعها والشُّحنة العاطفيَّة التي تحملها، وقد ولدوا جميعاً في اللَّحظة ذاتِها؛ لحظةِ الخلق الإبداعيِّ.

واعترافُنا بعبقرية الأجداد في وضع قصائدهم على إيقاعات مناسبة لموضوعاتهم تساعدُ الرواةَ على حفظ تلك الأشعار، لا يتناقض مع بحثنا عن إيقاعٍ جديدٍ يتناغم مع حياتنا الجديدة، نبني به سيمفونيتنا المعاصرة ونوقِّع فيها أصواتَ الحياة التي نحياها نحن، بعيداً عن الجلجلة الخطابيَّة الجوفاء، إنها موسيقى جديدة بصريّة تشكِّل مُناخاً نفسيّاً حاضنا للفكرة، نعيش صداها العميقُ حين نقرأها، نتفاعل معها ونتأثَّر بها.

الأسطورة:

لجأ الشاعر الحداثي إلى توظيف الأسطورة في نصِّه، لما فيها من غنى وإيحاء، فالأسطورة تعمق فينا وعي العالم، وتستخدم لمعالجة ظاهرة معاصرة توازي ظاهرة قديمة، والعلاقة بين الشعر والأسطورة علاقة وطيدة وقديمة، ويرى عثمان ( 2023)” أن صناعة الشعر عند الإغريق تعادل وتقابل أو تتمازج مع صناعة الأسطورة، وأن الشاعر أساساً هو صانع الأسطورة” (27). والشاعر وفيق سليطين تنبَّه على جماليات حضور الأسطورة في شعره، فوظف كثيراً من الأساطير مثل أسطورة طائر الفينيق، وليليت، وبروميثيوس، وأورفيوس، وغيرها، يقول سليطين ( 2010):

” ولم تعد (ليليت)/ من غابة الخراب/ ولم أعد…/ كأنني غبارها المكنوزَ / خلفَ الباب/ ما زلت نحو المهد / ألوي عمري المهدور).(71)

والشاعر هنا ينتظر عودة ( ليليت) رمزاً دالَّاً على الأنثى المخلِّصة، مجدِّداً في مضمون أسطورة ليليت القديمة التي كانت ترمز فيها /ليليت/ إلى الشرِّ، في تجديد أنيقٍ يتماهى مع روح عصره، لكنَّ انتظار الشاعر يطول، ولا تأتي (ليليت)، فيصبح ذلك الغبار الذي يحمل دلالات تحيل على الضياع، والهباء، والنسيان.

ختاماً يمكننا القول إنَّ الشِّعرَ لم يعد تلك الكأسَ الذهبيةَ بيد الأميرِ، يستأثر بها، داخل قصره العاجيِّ، بل أصبح، بفضل تلك التغيرات الجوهرية التي طرأت على القصيدة، رغيفاً يوميّاً يحتاجه كلُّ جائعٍ إلى الجمالِ والخير والحريّة. 

الاستنتاجات:

1-تطوَّرَ الشعر العربي مثل أيِّ ظاهرةٍ إنسانية، تتطور بتطوِّر المجتمع، وتتأثر بمتغيرات الحياة والحضارة.

2-لحق التغيُّرُ الشعرَ في شكله ومضمونه، وركَّزت الحداثة الشعرية على التغيُّر في مضمون الشعر.

3- يمثِّل شعر وفيق سليطين أنموذجاً للشعر الحديث.

4- من سمات الحداثة في شعر وفيق سليطين الذاتية التي تتجاوز حدود الذَّات إلى ما يُدخلها في مدار الإنسانية.

5- يعدُّ المجاز والرمز وسعة الخيال في شعر سليطين سماتٍ بارزةً لهذا الشعر.

-6اعتمد سليطين في شعره على استبطان اللغة، وتكثيفها، والتجديد فيها، وعلى تفجير طاقة اللفظ، و تحميله دلالات جديدة.

7- للموسيقا أثر بارز في شعر سليطين، وهي توازي إيقاع الحياة بعمقها وامتدادها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. ابن منظور(1990): لسان العرب ، إعداد : يوسف خيّاط –بيروت – لبنان.
  2. أدونيس(1992): الثابت والمتحول ،ج 3، صدمة  الحداثة.
  3. إيزر، فولفغانغ (د.ت): فعل القراءة، نظرية جماليّة التجاوب في الأدب، ترجمة د. حميد الحمداني، الجلالي الكدية- منشورات مكتبة المناهل- فاس- المغرب.
  4. برهم، لطيفة إبراهيم(2014): دراسات في نقد الشعر – منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق
  5. بدوي، محمد مصطفى(2015) : كولردج –سلسلة نوابغ الفكر الغربي، دار المعارف-سورية
  6. بشار بن برد(1971): الديوان-دار الكتب العلمية –بيروت.                        
  7. بنيس، محمد) (1981: بيان الكتابة-مجلة المنظومة
  8. جاموس، عدنان : مقال (الأدب والمعاصرة )، مجلة الآداب العالميّة ، العدد 157  /2014
  9. جبرا، إبراهيم جبرا(1979): الرحلة الثامنة، المؤسسة العامة للدراسات والنشر، بيروت- ط-
  10. ريفاتير ، سيموطيقيا الشعر(2019)، دلالة القصيدة ، ت : فريال جبوري غزول.
  11. سليطين، وفيق (2013): أخضرٌ كالسرير ، الهيئة العامة السورية للكتاب- دمشق
  12. سليطين، وفيق (2013 ): أوصال أورفيوس، الهيئة العامة السورية للكتاب- دمشق
  13. سليطين، وفيق (2019) :أشياء العالم الصغير -الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة- دمشق
  14. وفيق، سليطين2010)): شقوق المعنى: الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة)- دمشق
  15. عبد الرحمن، عبد الهادي(1994): سحر الرمز- مختارات في الرمزيّة والأسطورة – دار الحوار – اللاذقية ط 1
  16. عزّام، محمد(1995): الحداثة الشعرية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
  17. اليسوعي، ج روبرت بارت(2013): الخيال الرمزي، كولردج والتقليد الروماني، ت: د. عيسى العاكوب – منشورات معهد الإنماء العربي- الاسكندرية 
  18. أبو عسلي، برهان، مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية- مجلد 39- عدد75-86 :(2023)1
  19. نعيمة، ميخائيل( 2019): الغربال، المطبعة العصرية، مصر

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *