مواطنون أُجراء في الوطن المهاجر…نحو فهم أعمق للمواطنة والانتماء

معين العماطوري
معين العماطوري

حسين الإبراهيم

كاتب وصحفي سوري

عندما يُطرح السؤال على أي مواطن عادي عن شعوره تجاه وطنه، قد يكون الرد غامضًا ومترددًا. فإذا كان يُنظر إلى الوطن باعتباره المنزل الذي يُمنح فيه المرء الحقوق الأساسية كالعيش بأمان والحصول على التعليم والرعاية الصحية، فإن الشعور بالانتماء سيكون قويًا. ولكن، ماذا لو تحول هذا الإحساس إلى مجرد عقد مؤقت، يعيش المواطن فيه دون أن يشعر أنه شريك في بنائه أو صاحب حق حقيقي في توجيه مستقبله؟ هنا تبدأ إشكالية المواطنة الفاعلة مقابل المواطنة الاسمية، حيث يبرز الفرق بين من يرى نفسه صاحب البيت ومن يعتبر نفسه أجيرًا يعمل فيه لمصلحة معينة ثم يرحل عندما تزول الحاجة إليه.

المواطن الحقيقي والمواطن العابر

الفرق الجوهري بين المواطن الحقيقي والمقيم العابر لا يرتبط فقط بالهوية القانونية التي يحملها الشخص، بل يرتبط أيضًا بالإحساس العميق بالمسؤولية تجاه الوطن.

المواطن الحقيقي هو من ينظر إلى أرضه على أنها جزء منه، يحرص على نظافتها، يثور ضد الفساد، يسعى إلى تحسين مجتمعه، ويشعر أن كل نجاح أو إخفاق ينعكس عليه وعلى هويته.

أما الأجير، فهو يعمل لمصلحة محددة، يساهم في بناء المؤسسة أو المجتمع طالما كان هناك مقابل ملموس، لكنه لا يبالي بالمستقبل بعيد الأمد ولا يهمه كثيرًا إن تدهورت أحوال الوطن بعد رحيله.

أما الضيف، فهو يعيش على الهامش، يهتم فقط بما يخدم مصالحه الآنية، ولا يشعر بأي ارتباط يفرض عليه التفكير في مصير المجتمع الذي يسكنه.

الفارق بين هذه الفئات يظهر في المواقف اليومية البسيطة؛ فعندما يرى المواطن الحقيقي إساءة استخدام الممتلكات العامة، يشعر بغضب وكأن ذلك يهدد جزءًا منه، في حين أن الأجير قد يراه مشكلة لا تخصه إلا إذا أثرت على عمله أو مصالحه، بينما الضيف غالبًا ما يمر بها دون اكتراث. هذه التفاصيل الدقيقة هي التي تحدد جوهر العلاقة بين الإنسان ووطنه، وتؤثر على استقرار المجتمع نفسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. فعندما يشعر الفرد أنه جزء لا يتجزأ من وطنه، يصبح أكثر استعدادًا للعطاء، وأكثر حرصًا على الدفاع عنه، وأكثر رغبة في إصلاح أي خلل يراه.

ليست المواطنة الحقيقية مجرد انتماء عاطفي، بل هي حجر الأساس لكل جانب من جوانب الحياة. فمن الناحية النفسية، يعيش الإنسان حالة استقرار عندما يشعر بالانتماء، مما ينعكس على صحته العقلية ويقلل من الشعور بالاغتراب والقلق.

ومن الناحية الإنتاجية، يتحول المواطن إلى عنصر فعال في المجتمع، يبتكر ويبدع، كما يظهر ذلك جليًا في المجتمعات التي تعزز مفهوم المواطنة مثل اليابان، حيث تسود ثقافة الانتماء حتى داخل بيئات العمل، مما يجعل الموظفين أكثر التزامًا وحرصًا على تحقيق النجاح الجماعي بدلاً من التركيز فقط على المكاسب الفردية.

ومن الناحية الثقافية، فإن المواطنة تلعب دورًا رئيسيًا في حماية الهوية من الذوبان أو التطرف، حيث يخلق الانتماء الحقيقي توازنًا بين الحفاظ على التقاليد والانفتاح على التطوير.

أما من الناحية الأخلاقية، فإن الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين يساهم في تقليص الفساد، لأن الفرد يرى نفسه مسؤولًا ليس فقط عن أفعاله الشخصية، بل عن تأثيره على مجتمعه بأسره.

بين المالك والمستأجر

تخيل للحظة أن أحدهم سألك اليوم: هل تشعر أنك مالكٌ لهذا البلد أم أنك مجرد مُستأجَر فيه؟
سؤال صادم، أليس كذلك؟

ربما لم يخطر ببالك من قبل، وربما شعرت بالارتباك وأنت تحاول الإجابة بصدق. هل أنت حقًا مواطن أم مجرد عابر سبيل؟ هل الوطن بالنسبة لك مجرد بطاقة هوية، أم أنه انتماءٌ عميق ومسؤولية أخلاقية تُحركك كل يوم؟

المواطنة الحقيقية ليست مجرد ورقة رسمية أو حقوق تُطالب بها، بل هي شعور بأنك جزء من هذا المكان، وأنك مسؤول عن حاضره ومستقبله. إنها التزام أخلاقي ووجداني، وليست صفقة مؤقتة أو عقد عمل.

لماذا هذا السؤال مهم؟ لأن الإحساس بالانتماء أو فقدانه ينعكس على كل شيء:

  • على استقرارك النفسي: هل تشعر بالأمان أم بالغربة في وطنك؟
  • على إنتاجيتك: هل تعمل بحب أم تعمل لتنجو فقط ؟
  • على أمن المجتمع: فالمغترب في وطنه قد يتحول إلى قنبلة صامتة أو فرد سلبي لا يُبالي.

الاختبار الثلاثي: مواطن أم أجير أم ضيف؟

لنختبر أنفسنا بصدق:

  • المواطن: يبني، ينتقد ليُصلح، يشعر أن الأرض ملكه. إذا رأى خطأً، يسعى لتصحيحه.
  • الأجير: يعمل مقابل منفعة (مال، سلطة)، يغادر إذا انتهى العقد أو زالت المنفعة.
  • الضيف: يعيش على الهامش، لا يهتم إلا باحتياجاته الضيقة، لا يغضب إلا إن مُسّت مصلحته.

اختبر نفسك:

  • هل تغضب إذا رأيت أحدهم يُتلف الممتلكات العامة؟
  • هل تشعر بالفخر حين ترى إنجازًا وطنيًا؟
  • هل تحزن إذا ساءت صورة بلدك في الإعلام؟
  • هل تساهم في حل مشكلة ولو كانت صغيرة في حيّك؟

جدول مقارنة: المواطن، الأجير، الضيف

المواطنالأجيرالضيف
الانتماءعميق وجذريسطحي ومؤقتمعدوم أو ضعيف
الدوافعالإصلاح والبناءالمنفعة الشخصيةالراحة والنجاة
المسؤوليةعاليةمحدودةشبه معدومة
النقدبنّاء وهادفسلبي أو مصلحيلا يهتم
المشاركة في الأزماتيهبّ للمساعدةيراقب عن بعديهرب أو يختفي
العلاقة بالوطنعلاقة ملكية وواجبعلاقة عقد ومصلحةعلاقة ضيافة مؤقتة

لماذا تُعدّ المواطنة الحقيقية أساس كل شيء؟

  • نفسيًّا: الشعور بالانتماء يقلل الاكتئاب والاغتراب. الإنسان الذي يشعر أن له مكانًا في وطنه، أقل عرضة للانهيار النفسي أو التطرف.
  • إنتاجيًّا: المواطن الفاعل يُبدع أكثر. اليابانيون مثلاً يعتبرون المصنع بيتهم، فيتفانون في العمل، لأنهم يشعرون أنهم جزء من قصة نجاح جماعية.
  • ثقافيًّا: المواطنة تحمي الهوية من الذوبان أو التطرّف. من يشعر أنه غريب، يبحث عن هوية بديلة أو ينزوي.
  • أخلاقيًّا: الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين يقلل الفساد ويعزز النزاهة.

واجبات المجتمع: كيف نصنع مواطنين لا أجراء؟

تحصين المواطن من الاغتراب الداخلي وبناء انتماء وطني راسخ يتطلب من السلطات والمجتمع الأهلي اعتماد مناهج عمل متكاملة تتجاوز الشعارات، وتترجم إلى ممارسات وقرارات تشاركية تفتح المجال أمام كل فرد ليكون مواطنًا حقيقيًا فاعلًا في وطنه.

1. دور السلطات: سياسات تشاركية وعدالة شاملة

  • ضمان العدالة والمساواة: لا يمكن أن يشعر المواطن بالانتماء إذا كان يواجه التمييز أو يشعر بأن حقوقه مهدورة. على السلطات وضع ضمانات قانونية حقيقية وتفعيل قضاء مستقل وعادل، بحيث يتمكن كل فرد من الدفاع عن حقوقه دون خوف أو تمييز
  • فتح قنوات المشاركة الفعلية: على الدولة أن تتيح للمواطنين المشاركة في صياغة السياسات، وتدبير الشأن العام، ليس فقط عبر الانتخابات، بل من خلال منصات حوارية ومجالس محلية تتيح الاستماع لمقترحاتهم وملاحظاتهم حول القضايا اليومية.
  • تمكين الشباب والنساء والفئات المهمشة: عبر برامج تدريبية ومبادرات لتمكينهم من تولي مواقع القرار والمشاركة في التنمية، ما يعزز شعورهم بأنهم جزء أصيل من الوطن لا مجرد أجراء أو ضيوف
  • تجذير ثقافة المواطنة في التعليم: المناهج الدراسية مطالبة بتبني قيم المواطنة والانتماء، وتغرس في الطلاب أهمية المشاركة المجتمعية، والعمل التطوعي، والتسامح، وحب الوطن، لا أن تكتفي بالحفظ الآلي للنصوص أو الأناشيد

2. دور المجتمع الأهلي: بناء وعي ومبادرات مستدامة

  • نشر ثقافة المواطنة والحقوق: تلعب الجمعيات الأهلية دورًا محوريًا في نشر الوعي بحقوق الإنسان، وقيم المواطنة، والتسامح، والانضباط، عبر حملات إعلامية وورش عمل وفعاليات مجتمعية تستهدف كافة الفئات وخاصة الشباب
  • تعزيز المبادرات المجتمعية: من خلال إطلاق مشاريع تطوعية، مثل مبادرات القراءة، أو حملات النظافة، أو الفعاليات الثقافية والرياضية، التي تعزز الانتماء وتجمع المواطنين حول أهداف مشتركة
  • إشراك المواطنين في حل المشكلات المحلية: الجمعيات الأهلية قادرة على خلق منصات حوارية تتيح للمواطنين اقتراح حلول لمشاكل أحيائهم أو قراهم، والعمل مع السلطات على تنفيذها، ما يعزز الشعور بالملكية والمسؤولية
  • دعم الفئات الأكثر عرضة للاغتراب: عبر برامج دعم نفسي واجتماعي للفئات المهمشة أو المتضررة من النزاعات أو الأزمات، لضمان دمجهم في المجتمع وعدم شعورهم بأنهم غرباء في وطنهم

3. الإعلام والتعليم: أدوات لتكريس الانتماء

  • إعلام وطني هادف: إنتاج برامج وأفلام وثائقية تبرز تاريخ الوطن، وقصص النجاح المحلية، وتحتفي بالمبادرات المجتمعية، ما يعزز الفخر والانتماء لدى المشاهدين
  • تعزيز الحوار المجتمعي: الإعلام والجمعيات الأهلية مطالبان بفتح مساحات للنقاش حول قضايا المواطنة والانتماء، وتشجيع المواطنين على التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم بحرية

4. ممارسات وقرارات تشاركية تضمن الانتماء

  • إشراك المواطنين في القرارات اليومية: مثل وضع ميزانيات الأحياء، أو اختيار مشاريع التنمية المحلية، أو حتى تنظيم الفعاليات الوطنية، ما يشعر الفرد أن صوته مسموع وأنه شريك في بناء الوطن
  • تكريم المبدعين وأصحاب المبادرات: الاعتراف بالإنجازات الفردية والجماعية يعزز الانتماء ويدفع الآخرين للاقتداء بهم

المواطنة الحقيقية لا تُفرض من أعلى، بل تُبنى عبر شراكة واعية بين السلطات والمجتمع الأهلي، من خلال سياسات عادلة، تعليم نوعي، إعلام هادف، وممارسات تشاركية يومية تزرع في كل فرد شعورًا بأنه مالكٌ لهذا الوطن، لا مجرد أجير أو ضيف عابر

واجبات المواطن: من الحقوق إلى المسؤوليات

  • المشاركة لا الشكوى: التطوع، النقد البنّاء، دفع الضرائب بضمير.
  • حماية المال العام: كأنه مالك الخاص، فلا يرضى أن يُهدر أو يُسرق.
  • التعليم المستمر: مواطن واعٍ لا يُستغَل أو يُخدع.
  • التضامن الاجتماعي: مساعدة الضعيف، خاصة في الأزمات، لأن قوة الوطن في تماسك أبنائه.

تجارب ملهمة: شعوب حوّلت الأجراء إلى مواطنين

  • سنغافورة: من أفقر دول آسيا إلى نموذج عالمي، بفضل غرس الانتماء وروح المواطنة في النفوس.
  • نموذج محلي: في كثير من البلدان العربية، نرى مبادرات شبابية تطوعية تعيد الحياة للأحياء، وتُثبت أن المواطنة فعل يومي، لا شعار يُرفع.

خاتمة: ابدأ بنفسك

المواطنة ليست شهادة تُمنح، بل خيارٌ يومي.

ماذا تختار غدًا؟ أن تكون مواطنًا حقيقيًا أم مجرد أجير في وطنك؟

اسأل نفسك: هل تفضل ربح مليون دولار أم أن ترى بلدك أفضل مكان في العالم؟

تحدٍ شخصي:

ابدأ بمشروع صغير لتحسين حيّك، أو ساعد جارك، أو نظّف أمام منزلك.

الوطن يبدأ من هنا… من كل واحد فينا.

لمسات للتفاعل

  • أمثلة يومية: كيف يتعامل الناس مع القمامة في الشارع؟ هل ننتظر عامل النظافة أم نتحمل المسؤولية؟
  • أقوال محفزة: “الوطن ليس مكانًا نعيش فيه، بل كيان يعيش فينا.”
  • أسئلة استفزازية: لو كان بإمكانك الهجرة غدًا، هل ستفعل؟ ولماذا؟
  • دعوة للعمل: شارك في مبادرة، أو اكتب فكرة، أو ساعد في حل مشكلة… فالوطن لا يبنيه إلا أبناؤه.

اختر اليوم أن تكون مواطنًا حقيقيًا، لا أجيرًا في وطنك المهاجر.

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *