نحن والأخر… والحق في الاختلاف

معين العماطوري
معين العماطوري

الأستاذ الدكتور عطا الله الرمحين

أستاذ الأعلام في جامعة دمشق

مقدمة :

قضت مشيئة الله الخالق بارئ الكون – تبارك وتعالى – ان يقترن الخلق والجعل بالاختلاف والمغايرة والتنوع في الانفس والأفاق . وأن يجعل بني آدم “شعوبا” وقبائل ” ، مختلفين ليعرف أحدهم الآخر ، وحكم عليهم بأنهم ” لايزالون مختلفين ولذلك خلقهم ، وشاءت حكمته أن يزرع في الأنفس بذور الفجور والتقوى ، وأن يفاضل بين عباده في الأرزاق والبنين ، وفي الهداية والزاد من الحكمة والرشاد.  يرى احدهم سبيل الغي فيختارها ويجنح إليها ، وهو يعلم انها غير سبيل الرشد ويعلم هذه السبيل القويمة فينكب  عنها  ويحيد .

يتفوق بنو الإنسان في عصرنا الحاضر بالاختلاف والتباعد ، على نحوٍ لم يحصل مثله من قبل وبمثل درجاته من الاستمرار والشمول والعنف. فلئن كانت الاختلافات الدينية ، وهي أوسع ميادين الافتراق وأدماها قد أسفرت عن تمزق المجتمع البشري مذاهب شتى وعقائد متصادمة، فبلغت ذروة عنفها مع الحروب الصليبية في فاتحة القرون الوسطى وفي فتنة المئة عام بين الكاثوليك و البروتستانت وفي فتنة الموريسكيين من فلول الردة القسرية بالأندلس، فإن دواعي الاختلاف الديني لم تبرح تفرق بين بني الإنسان، ولم يزل فيهم أمثال الأمريكي اليهودي _ صموئيل هانتنغتون _من يعمل على تأجيج الفتنة بين الحضارات الدينية، بذريعة التفوق بين نحن والآخرين .

ولئن كانت الاختلافات العرقية الجنسية من رواسب عصور الجهالة وظلمة التاريخ قد أودت بأرواح الملايين من الخلق، وبلغت أوْج شدّتها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر،

فقد تجددت أمواج عنفها مع تجارة الرقيق من أبناء القارة الأفريقية، ومع المحارق الغازية النازية لإبادة اليهود، ومع مجازر الخمير الحمر في كمبوديا، وفي قرن الجنوب الأفريقي ضد المتساكنين من الزنوج في العقود القريبة من عصرنا.

وإذا كان التنازع على الموارد الطبيعية ومكامن الطاقة قد دفع إلى اكتساح البلدان واستعمار الشعوب وابتزاز الثروات في أوطان عديدة بأفريقيا والشرق الأوسط وبآسيا وجنوب أمريكا، على مدى القرنين الماضيين، فإن المدّ الاستعماري نراه يتجدد اليوم ويتشكل أشكالاً مختلفة ويتذرع بذرائع خادعة في أوطاننا القريبة وبغيرها من أنحاء العالم.

إن مجتمعنا المعاصر قد تضافرت على تمزيقه وتعميق شروخه كل هذه الدواعي والذرائع، مجتمعة متساندة، الدينية والعرقية والثقافية والاقتصادية. يرفد بعضها بعضاً، ويقوي أحدها الآخر، حتى اختلطت على المحلل الاجتماعي جغرافية العلاقات البشرية، وتعذر الفرز بين دواعي التصدع والافتراق. فأي العناصر هو الغالب في تأويل الحروب الشرق أوسطية، العنصرية، العرقية أم الاختلاف الديني أم الجشع الاقتصادي؟ لعل الاختلاف بين المتقاتلين في فلسطين والعراق وسورية وفي الشيشان والسودان وبالأمس القريب في أفغانستان وفي مقاطعات البوسنة والهرسك في يوغوسلافيا السابقة يكرع من هذه الدواعي كلها ويتذرع بها جميعاً.

هذا الأخر المقاتل، المتذرع بالمغايرة والاختلاف ماهي مبرراته الغالبة، إذا كان محفورا” بجميعها في الآن نفسه ، فإذا كانت مكامن النفط بغيته الأولى ، فما بال الاختلاف لا يزال يؤجج الحرب وهو قد تمكن من السيطرة على حقول المحروقات جميعها ؟ وإذا كان احتلال الأرض والسيطرة على مراسيها ومطاراتها وعلى شبكات العبور والمواصلات والاتصالات فيها ، مقصده الأكبر ، فما بال العدوان متواصل وقد أصبحت هذه المواقع تحت سيطرة عتاده الحربي من سفن وطائرات ؟

وإذا كانت السيطرة الكونية وزعامة العالم هي الحافز الأول لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية كما تقرأها من أقوال رؤسائها وفي تأليف مفكريها ، فما بالها لم تخمد الحروب التي تخوها القوات الأمريكية في جميع أنحاء العالم تقريبا” ، وتواصلها منذ عقود من الزمن كما في العراق وسورية ، وقد سقطت اليوم جدار برلين ودانت لهذه الزعامة الأنظمة الحاكمة في أقطار اوروبا الغربية وفي سائر أنحاء العالم ؟

الواقع ان الاختلاف بين بني الانسان أصبح اليوم متعدد الذرائع ولا يصدر عن سبب واحد ونظرة منفردة ، يتغذى بدواع متشابكة لا ترى لأمدها نهاية ولا لجذوتها عمرا” ولا لحميتها أجل انطفاء وموعد خمود . إن الجيل الذي شقت أعماره عقود العشرين المنصرم لا يستطيع ان يفرد فترة زمنية من ذلك القرن الدامي الطويل ، فرحت فيها البشرية قاطبة ، في جميع مواطن تساكنها بهدنة سنة واحدة من الأمن المنشور بين الأجناس ومن الاطمئنان المستقر في الانفس ، أليست الحرب قائمة بأرض فلسطين على امتداد نصف القرن من يوم إنشاء دولة إسرائيل ؟

ألم تعمر الحروب التحريرية للأوطان المستعمرة في جميع القارات عقودا” متواصلة أواسط القرن الماضي ؟ نعلم من كتب المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، ان بلاده ظلت تفرض “السلم الأمريكي” على شعوب أمريكا الجنوبية طوال أربعة او خمسة عقود من ذاك القرن، فتخلع حكومات منتخبة بإرادة شعوبه ، وتنصب مكانها صنائع عسكرية ومدنية مسخرة لخدمة مصالحها ، مستهترة بمصالح المحكومين من مواطنيهم .

ألم تنفلق على مستوى العالم بأسره حربان كونيتان في قلب القارة الأوروبية ، وانتشرت ويلاتهما في شمال افريقيا وفي نصف الاتحاد السوفيتي ، في البحار والأجواء وفي قلب الصحراء ومتاهات الثلج ، ولم تدم فجوة الهدنة بين الحربين اكثر من عشرين عاما” ؟ ثم تغيرت طريقة المجابهة بين القوى العالمية الكبرى فأخذت تتبارز من خلال حروب جهوية وبثمن بشر سود أو الاسيوية في كوريا وكمبوديا وفي الصين الحمراء والبيضاء وفي اليابان بينه وبين اجواره الكبار وفي لبنان الغربي بين الأشقاء ؟

متى ذاقت جموع الإنسان طعم الاطمئنان وتنعمت باستقرار في الأنفس وبين الديار؟ ثم انظر الى اختلاف الشعوب في ميدان الاقتصاد، وقد غدا المجتمع البشري في عصرنا مجتمع السوق القائم على تبرير التفاوت الفاحش في الأرزاق وضرورات العيش .وبات الاقتصاد عاملاً أساسياً فعالاً في التباين  بين البشر ، وغدا المجتمع مقسوما” في عصر العولمة بين جنوب وشمال، الأول موطن الثراء والترف والتبذير ، والثاني موطن الفقر والمرض والجهل والتخلف . يبدو الأول كانه جنة الله في أرضه، ويتزين في أعين المحرومين فيصبح عندهم المقصد المفضل للهجرة ولضروب من ” الحج الحضاري” وتسوء في نظر اهله وشبابه ملامح الصنف الثاني ، وتنفر من العيش فيه المهج وتضيق الانفس ، وتتقلص المطامح ، فينقلب أرض نفي وفرار ويبيت الآنا المتخلف المكبوت يتبرم بذاته ، ويتطلع إلى صيرورة الآنا الأخر صورة في بيئة المهجر من نظرة الاستنقاص ومشاعر الضجر .

 ذلك أن الهجرة تنشأ في الدماغ والفؤاد ، قبل أن تحفزها الدواعي الاجتماعية والاقتصادية ، وان العلاقة بين الذات – الأنا – وبين الذات المختلفة تتولد في رحم المخزون الثقافي قبل أن تطفو على سطح الوعي وقبل أن تبحث لها عن المبررات الذهنية . وأن هذا المخزون من القيم الثقافية هو الزاد الباقي في كل حضارة والمرجع الأول لكل سلوك ، والجسر المتين للعلاقة بين بني الإنسان . ولم تعرف المجتمعات المختلفة فترات أمن وسلامة إلا بفضل تمتين جسر التواصل الثقافي وإرساء قيمة التسامح بين الثقافات. ذلك من شواهد التاريخ ولا رصيد غيره ولا معول سواه في مسيرة المستقبل. … يتبع بمقالات قادمة.

شارك المقال
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *