حسين الإبراهيم
إعلامي متخصص بالمحتوى الرقمي والذكاء الاصطناعي
“ليس الخطر في أن يتم خداعك، بل في أن لا تدرك أنك خُدِعت.” — جورج أورويل
في عالمٍ تتدفق فيه المعلومات بسرعة البرق، لم يعد السؤال الأساسي هو: “هل هذه المعلومة صحيحة؟”، بل أصبح: “كم مرة قرأتها أو سمعتها؟”. هنا يكمن خطر “تأثير الحقيقة الوهمية” (Illusory Truth Effect)، وهي ظاهرة نفسية تجعل الدماغ يميل إلى تصديق المعلومات لمجرد أنها تتكرر أمامه، حتى لو كانت خاطئة تمامًا
الأكاذيب تتحول إلى “حقائق” بفعل وسائل التواصل
أثبتت دراسات عديدة أن تكرار المعلومات يزيد من احتمالية تصديقها، حتى دون أي دليل يدعم صحتها. كما قال دانيال كانيمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وعلم النفس: “التكرار هو أقوى أسلحة التضليل.. فهو يحول الإشاعة إلى بديهية.”
في تجربة علمية شهيرة أجراها عالم النفس هاشم آكباش، تم عرض جملة زائفة مثل: “الثعبان هو أسرع حيوان على الأرض” على مجموعتين من المشاركين. المجموعة الأولى قرأت هذه العبارة لمرة واحدة فقط، بينما شاهدتها المجموعة الثانية عدة مرات على مدار أيام. المفاجأة؟ بدأ أفراد المجموعة الثانية في الإيمان بصحة هذه العبارة بنسبة تزيد عن 32% مقارنة بالمجموعة الأولى
لكن في عصر الإنترنت، لم يعد الأمر مقتصرًا على التجارب المخبرية، فوفقًا لدراسة أجراها معهد MIT، فإن الأخبار الكاذبة تنتشر بمعدل أسرع ست مرات من الأخبار الصحيحة على منصات التواصل الاجتماعي. كما يقول جارون لانيير، ناقد التكنولوجيا ومخترع الواقع الافتراضي: “الخوارزميات تعطيك ليس ما تريد، بل ما يجعلك تدمن الغضب والاندهاش.”
أمثلة مذهلة تثبت خطورة هذه الظاهرة
🔴 إشاعة “شرب المبيّض يعالج كورونا” (مادة هيبوكلوريت الصوديوم، وهي مادة كيميائية قوية تُستخدم عادةً في التنظيف والتطهير)في عام 2020، ومع بداية جائحة كورونا، انتشرت إشاعة عبر وسائل التواصل مفادها أن شرب المبيّض يمكن أن يعالج الفيروس. هذه الخرافة أدت إلى حالات تسمم جماعي في بعض الدول، حيث قام العشرات بتجربة هذه “الوصفة القاتلة”، معتقدين أنها فعالة فقط لأنهم رأوها تتكرر أمامهم كثيرًا.
🔴 “الأرض مسطحة”: من نظرية هامشية إلى حركة عالمية
“في زمن الإنترنت، لم تعد الحقيقة تقنع أحدًا، بينما الكذب إذا تم تكراره يصبح إيمانًا.” — شيري توركل، عالمة الاجتماع بمعهد MIT
🔴 “الروبوتات تدير حسابات تويتر لنشر الأخبار المزيفة” في استطلاع للرأي أجراه مركز Pew Research في الولايات المتحدة، اعتقد 64% من المشاركين أن هناك روبوتات إلكترونية تتحكم في حسابات تويتر لنشر الأخبار الكاذبة، بينما الحقيقة أن النسبة الفعلية أقل بكثير كما يقول الفيلسوف يوفال نوح هراري: “المجتمع الذي يفقد القدرة على تمييز الحقيقة من الخيال هو مجتمع في طريق الانتحار.”
الشباب ضحية الحقيقة الوهمية
✅ التعرض المستمر: يقضي الشباب ساعات طويلة يوميًا على منصات التواصل الاجتماعي، مما يزيد من فرص تعرضهم للمعلومات المضللة. ✅ الخوارزميات تعزز القناعات: إذا أحب المستخدم منشورًا عن “نظرية المؤامرة”، ستستمر المنصة في تزويده بمحتويات مشابهة، مما يعزز قناعته بها. ✅ الثقة المفرطة بالمؤثرين: الشباب يميلون إلى تصديق مشاهير الإنترنت أكثر من الخبراء، مما يجعلهم عرضة للتضليل بشكل أكبر.
كيف نحمي أنفسنا من الوقوع في هذا الفخ؟
“لم يعد التضليل بحاجة إلى مؤامرة.. يكفي خوارزمية جيدة.” — زينب توفيق، باحثة في تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمع
🔹 تحقق من المعلومات قبل مشاركتها: لا تنشر أي خبر دون التأكد من مصدره. 🔹 ابحث في مصادر متنوعة: لا تعتمد على منصة واحدة فقط، بل حاول الاطلاع على وجهات نظر مختلفة. 🔹 كن مدركًا لقوة التكرار: لا تسمح للعقل بتصديق الأكاذيب لمجرد أنها منتشرة.
خوارزميات السوشيال ميديا: محركات انتشار “الحقائق الوهمية”
لم تعد الأخبار الكاذبة مجرد شائعات عابرة، بل تحولت إلى حقائق مزيفة يُصدقها الملايين. كما يقول كاثرين أوهير، خبيرة الإعلام الرقمي: “الخوارزميات لا تكذب، لكنها تجعل الكذب يبدو حقيقة.”
أسرى الخوارزميات
“إذا قبلنا أن تكون حياتنا محكومة بخوارزميات تُفضل الكذب.. فنحن نتنازل عن إنسانيتنا.” — تيم كوك، CEO شركة آبل
لا يمكننا إيقاف هذه الظاهرة، لكن يمكننا مقاومتها عبر: ✔ الضغط على المنصات لتحسين سياسات مكافحة الأخبار الكاذبة. ✔ التوعية الرقمية لمساعدة الشباب على التحقق من المعلومات. ✔ تعديل الخوارزميات للحد من انتشار المحتوى المضلل.
مسؤوليتنا تجاه الحقيقة
“عندما تتفوق الفيروسات الرقمية على الحقائق، يصبح المرض اجتماعيًا.” — أومبرتو إيكو، فيلسوف ومؤرخ
الأكاذيب ليست المشكلة الحقيقية، بل الطريقة التي تجعلها الخوارزميات تبدو مقنعة، متكررة، وحتى مرغوبة إذا لم نتحرك كمجتمعات لمواجهة هذه الآلية، سنعيش في عالم تُحدده “الحقائق الوهمية” لا الوقائع الحقيقية.
هل أنت مستعد لكسر دائرة “الحقيقة الوهمية”؟