بقلم. ماجدة أبو شاهين[1]
إذا شعرت بالحزن عند الانتهاء من قراءة رواية كأنك تودّع صديقا عزيزاً فاعلم أنها رواية قيّمة. انتابتني مشاعر الدهشة والحزن والخوف والإعجاب والرغبة بقراءة ثانية…عندما انهيت قراءة رواية (وكر السلمان) للأديب المبدع شلال عنوز.
هذه الرواية تصوّر جانبا من الحرب العراقية- الايرانية وما أفرزته من تغيرات ليس في جغرافيا الارض فقط وما أحدثته من دمار البنى التحتية في كلا البلدين بل وفي جغرافيا النفوس أيضا، نفوس الناس والمحاربين الذين اكتووا بنارها وكانوا يصافحون الموت يومياً ويوارون في دروبه الحمراء أغلى رفاقهم، ومن نجا منهم كان عليه أن يتعايش مع شخصيته الجديدة وذكرياته الدامية، أو إعاقته الجسدية بسوداويّة وحزن عميق.
الشخصية المحورية في الرواية هي (نعمان) الذي تربّى في بيئة صالحة في أحضان أسرة مثالية عقدت عليه آمالها وتلقّى حظاً وافراً من العلم ودرس القانون…لكنه كان ضحيةً لهذه الحرب الضروس التي فقد فيها اعز ما يملكه الرجل، فقد ذكوريته عندما أصابت قذيفة خيمته وهو في خطوط المواجهة مع العدو .
نعمان كما وصفه الكاتب (هو بذرة سيئة من بذور الحرب القذرة حمل كل سيّئاتها وتناقضاتها وإفرازاتها الموسومة بالحقد والغل والمكائد هو المجرم الذي نما في ضلالاتها وجبروتها مُكرَها).
الكاتب الذي كان راوية للأحداث استطاع أن يقودها بدفّة التشويق ويديرها بمهارة ربّان، كيف لا وهو بالأصل رجل القانون والمحامي الذي خبِر ملابسات الجرائم ودوافعها ومظاهرها وعلم طباع المجرمين وأسباب انحرافهم نحو ظلام الجريمة.
ما يدهشك أثناء قراءة الرواية هو الوصف البارع للشخصيات على اختلاف منابتها وثقافاتها وطباعها، وخاصة وصفه الغزير لشخصية نعمان الذي تلبّسته القسوة فجأة ونمت بين جوارحه شهوة القتل فوقع في حبائل الشيطان وجنح نحو الجريمة والقتل بدم بارد ثم أخذ يصارع الندم والألم وتعنيف الذات بعد كل جريمة…لكن كل هذا كان يتلاشي حين تظهر أمامه ضحيّة جديدة.
بدأ مسلسل جرائمه حين استدرج خطيبته سناء إلى ذلك الوكر الشيطاني الذي كان معتقلا للأحرار والمفكرين سابقا…سناء التي أحبها وأحبته حدَّ الجنون…قام بقتلها حتى لا تكون لرجل آخر بعد أن تسبّبت الحرب بإعاقته الجسدية تلك…ثم أقسم أن يجعل ذلك الوكر قبراً لكل أصدقائه… فتوالت جرائمه وتعاظمت مأسات.
لقد جعلنا الكاتب نعيش مع البطل لحظات حبّه الصادقة لسناء ولحظات غدره وخيانته وقتله لها ولأصدقائه ثم لنعيش معه عبر مونولوج داخلي- صراعَه النفسي بين الفروسية والجبن، بين المروءة والنذالة بين الشهامة والغدر، بين ذكرياته الجميلة وحاضره القاتم.
أبدع الكاتب في وصف الأماكن التي شكلت مسرح الأحداث…جعلنا نتفس هواءها ونسمع الأغاني الصادحة في مقاهي بغداد ونستشعر الحياة الصاخبة فيها، ونشعر برطوبة وعفونة ذلك الوكر الشيطاني في قضاء السليمان والروائح الكريهة فيه ونسمع أصوات الحشرات التي تنتشر في خباياه، هذا الوصف البارع المستفيض للشخصيات والأماكن أعان الكاتب في نسج حبكة درامية انتظمت في سُداها الأحداثُ بمهارة وحِذق.
والكاتب أراد لروايته أن تكون توعويّة هادفة لكن بعيدا عن أسلوب الوعظ أو النصح المباشر، وهنا تجلّت ثقافته القانونية الثرّة التي أدارها على لسان شخصياته (نعمان ورفاقه) الذين كانوا يدرسون قانون العقوبات وعلم الإجرام. فأجرى على ألسنتهم النظريات الجنائية…وتحدث عن دوافع الجريمة الموضوعية منها والبيئية والجينية وسلوكيات المجرم وعذابه وندمه، مستشهدا بنظريات علم النفس القانون مقتبِسا من القرآن الكريم والسنة النبوية. مضمِّناً حواراتهم أقوالَ العلماء والحكماء والكتّاب العالميين والعرب، فجاءت اللغة مناسبة لثقافة الشخصيات دون إقحام للأفكار أو تكلّف في عرضها.
وشّى الكاتب روايته بمنمنمات من شعر الغزل وشّحت الحوار بين الحبيبين نعمان وسناء، لنكتشف عند الأديب الكاتب شلال عنوز شاعريّة باذخة تمتاز بطلاوة التعبير وحسن الديباجة ورهافة الإحساس. تلك الاشعار كانت واحةً يقيل فيها القارئ بعد تعبٍ وانفعال وتوتّر عاشه في مخاض الجريمة وولادتها وتبِعاتها.
أما خاتمة الرواية فقد اختار الكاتب لها أن تكون نهاية مفتوحة، يتخيلها القارئ ويكمل بها دائرة الأحداث، وذلك مع آخر جريمة ارتكبها نعمان حين قام بتفجير الوكر عند مداهمة الشرطة له، بينما لمح الرعاة طيفا يغذّ السير باتجاه الصحراء.
إن رواية (وكر السلمان) رواية جديرة بالقراءة لما سبق ذكره من عناصر التشويق ونكهتها البوليسية الحاذقة والمؤلمة بآن معا، وأخيراً نتمنّى للكاتب العراقي المبدع شلال عنوز مزيدا من النتاجات الأدبية العالية.

[1] أديبة شاعرة عضو اتحاد الكتاب العرب لها إصدارات عديدة